الهوية.. والانقسام.. والبحث عن الذات.. أكفان الشخصية المصرية في “بعد الليل”

الهوية.. والانقسام.. والبحث عن الذات.. أكفان الشخصية المصرية في "بعد الليل"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
عرض “بعد الليل” للمخرج خالد جلال بمثابة بكائية جديدة للشخصية المصرية وعليها، بعد ما آلت إليه أحوالها في السنوات الأخيرة، من ضياع، وانقسام، وتخبط، وحيرة، وهو ما يجعله يري أبناء هذا الوطن من منظور الشاعر نجيب سرور الذي قال عن أهل مصر قبل نصف قرن: “الناس من هول الحياة.. موتي علي قيد الحياة”، لنستحضر هذه العبارة كمعادل موضوعي لشخصيات "بعد الليل" التي تطل علينا مرتدية أكفانها في دلالة تشير إلي حالة الموات التي يعيشها المجتمع المصري.

ويأتي عرض “بعد الليل” كمشروع تخرج الدفعة الأولي لأستوديو المواهب بمركز الإبداع الذي صاغه وأخرجه خالد جلال كجزء ثانٍ لعرضه الأول “قهوة سادة”، الذي لا يقل إمتاعاً عن “بعد الليل” رغم أن كليهما يقدم نقداً ذاتياً للمجتمع بل ويدينا الجميع لما آل إليه حاله من تردٍ يسهم في هدر طاقاته البشرية والانتقاص من إنسانيته.

يطرح خالد جلال الكثير من الأسئلة في عرض “بعد الليل” ولكن السؤال الأهم هو “إحنا ليه بقينا كده؟” والاستفهام هنا استنكاري لأن الجميع يعلم أسباب انهيار المجتمع ويسهم في تخريبه بطريقة أو بأخري ولكنه لا يملك الشجاعة لتغيير نفسه أو للامتناع عن إيذاء من حوله أو حتي الاعتراف بما حملت يداه من إثم تجاه هذا الوطن سواء بدافع مادي أو اجتماعي أو سياسي، بالإضافة لعدد من الأسئلة الوجودية التي تتناثر في مشاهد العرض كوسيلة للبحث عن الذات والهوية.

الشخصيات في هذا العرض تعبر عن الكثير من أزمات المجتمع ولكن رؤية خالد جلال تستلهم روح المسيح ومقولته: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر” فلا إدانة عند خالد جلال للضعف الإنساني ولكن الإدانة لخطوات المجتمع الثقيلة التي تدوس علي البسطاء وتدفعهم للتملص حتي لو من خلال الوقوع في الخطأ فالجميع أموات رحلت أرواحهم وحلت محلها المرارة التي تهبهم الحياة حتي ولو في أكفان تتحرك بلا روح ليتحول الإنسان إلي جثة تسير علي قدمين.

تجربة خالد جلال تمزج بين المرارة والسخرية الضحك والبكاء وتنهل من تفاصيل الحياة دراما تفتقد لروابط درامية تقليدية ولكنها تعتمد علي فكرة واحدة وطرح واحد تقدمه كل الشخصيات حتي إن بعض المشاهد وأهمها مشهد البداية تتحول الشخصيات كلها لشخصية واحدة يكمل كل منها حوار الآخر ويدافع عن نفسه بإدانة المجتمع رداً علي سؤال واحد: “انت ليه بقيت كده؟” ورغم ما يحمله العرض من دلالات إدانة، إلا أنه لا ينال من شخصياته، فالجميع يعرف ما اقترفت يداه والفن يطرح الأسئلة والمتلقي عليه البحث عن إجاباتها ولن يرهقه البحث فيكفي أن يتطلع كل منا في مرآة ضميره ليكتشف ما يتناساه من مسئولية تجاه مجتمعه وإنسانيته.

وإذا اعتبرنا أن تميز العرض يرجع لنص نبت من قريحة مبدعيه، الا أن مخرجه خالد جلال يتحمل مسئولية صياغته وشكله النهائي بما يحمله من مضامين، وهنا يجب أن نشير إلي أن هناك تشابهاً بين بعض مشاهد “بعد الليل” وبين عرض  “قهوة سادة” مع اختلافات طفيفة، وهو ما كان علي خالد جلال أن يتلافاه حتي لا يتهم بتكرار نفسه أو اجترار أفكاره التي قدمها من قبل، ولكن قد يكون الارتباط بين موضوعي العرض سبباً في هذا القرب، لأن خالد جلال في “قهوة سادة” كان يحتسي فنجاناً من القهوة علي روح الأشياء الجميلة التي فقدناها، وألقينا بها في غياهب النسيان أو ماتت ونحن في غفلة من الزمن، وفي عرض “بعد الليل” تكشف كلمة المخرج عن أمله في غد أفضل فهو يأمل في نهار قادم حيث يقول “مفيش ليل إلا وبعده نهار وما عفريت إلا بني آدم“.

ورغم أهمية ما قدمه العرض من أفكار، إلا أن الوجوه الواعدة التي قدمها خالد جلال لا تقل أهمية وإبداعاً علي سبيل المثال لا الحصر محمد عز وإسلام عبدالله ومحمود الليثي وميرنا جميل وسارة إبراهيم وجيهان الرازي ونور قدري التي عادت من الاحتراف بعد عملها مع أسماء كبيرة أهمها المخرج داوود عبد السيد لتنهل من مدرسة خالد جلال الذي يدفع في كل عام بعدد كبير من الوجوه الواعدة للساحة الفنية لينضموا إلي كتيبة أبناء خالد جلال علي خشبات المسارح وشاشات السينما والتليفزيون، ولا نغفل الديكور المعبر والبسيط في الوقت نفسه لندي عبد المجيد وعمر رأفت والأزياء لتغريد عز الدين والتوظيف الجيد للإضاءة والصوت لأحمد عبدالتواب ومحمد حسن، وجهد المخرجة المنفذة علا فهمي، لنؤكد في النهاية أن مشروع خالد جلال في مركز الإبداع هو مشروع قومي يهدف لتجديد دماء الفن المصري وصقل مواهب تبحث عن بارقة أمل للتعبير عن ذواتها فلا تجد.

مقالات من نفس القسم