“غراميات شارع الأعشى” لبدرية البشر أو الرقص على طريقة أهل نجد

موقع الكتابة الثقافي default images
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي*

الرقصة أو العرضة على طريقة أهل نجد ضاربة في جذور التاريخ، يكون الرقص جماعيا من طرف مجموعة متميزة من الراقصين بسيوفهم وخناجرهم، رجال يشكلون دائرة متراصة وفي الوسط يسرح ويمرح ويبني الرقصة أفراد خبروا جيدا بناء الوصلة وتسلسلها،  يرافقهم الطبل بتوجه إيقاعي للوصول إلى أوج الصوت المرتفع المطلوب لتحقيق الوجد العالي في الرقص، مع ترديد الأغاني المستمدة من القصائد التمجيدية من خلال هز السيوف والخناجر وتحريكها في صيغة صور مقصودة محددة في مضامينها وأغراضها، هي إذا رقصة للفخر والحماسة والذوذ عن حياض الوطن والحمى والحرمات، وهي رموز استيطيقية تستبطن العادات والتقاليد المجيدة التي يستحضرها أهل نجد النشامى انطلاقا من موروثهم الشعبي لبلورتها في الرقص عبر لوحات متسلسلة تعكس عمق الروابط الاجتماعية والعلاقات الدالة.

بدرية البشر  الكاتبة الروائية السعودية عملت بحسها الصحفي، وإبداعها الروائي، على إعداد عمل جميل ضمن بناء درامي دقيق، سياقه جاء موازيا للعناصر والمكونات المتعددة والغنية المساهمة والمشاركة في إبداع لوحة فنية رائعة تعكس في عمقها صورة عن رقصة ” العراضة ” النجدية العريقة، لقد جاءت روايتها ” غراميات شارع الأعشى ” متضمنة للخطوات واللوحات المتتابعة في رقصة أهل نجد من خلال استحضار التطور الذي عرفه المجتمع السعودي عبر حركية تصاعدية ساهمت في تدوينها مختلف شرائح المجتمع السعودي بإرادة واضحة في تحقيق نقلة نوعية تساهم بوضوح في تغيير معالم بنية المجتمع انطلاقا من التحولات الكثيرة التي وجدت الأسر السعودية نفسها مقبلة عليها.  

اختارت المبدعة ” بدرية البشر ” لروايتها صوتا سرديا خاصا يقود ويوجه عملية الحكي، هو وجه أنثوي، وهي عملية كما يبدو مقصودة من طرف المؤلفة حيث تعمدت الدفع بأنثى لتوجيه السرد في الرواية رغما عن وعيها التام بقيود المجتمع الذكوري ” البطريركي “، لقد كان اختيار الساردة ” عزيزة ” الأنثى، واحدا من العناصر الأساسية الأولية التي رامت بها المبدعة الشروع في اختراق القلعة الذكورية المنيعة، وكان هذا الاختيار فريدا ودقيقا، إنه تحول اجتماعي قيمي أساسي، حيث طوال الرواية والساردة تظهر بمظاهر القوة والثبات والقدرة الواضحة على تحمل المسؤولية وتوجيه الحكي عبر إبداع مصائر الشخصيات وتوجيههم كما تريد، عن طريق رسم حدود حركتهم وسلوكهم، ولجم فرص اختراق حجب الحرية دفعة واحدة، لقد ظلت قوية ومتمكنة منذ زواج أختها الكبيرة ومستودع أسرارها ” عواطف “، وعملت بكل قوة وإصرار على توفير مصير واقعي طبيعي تقليدي مشرق لجل شخصيات الرواية، حتى أصبحت وجها لوجه أمام مصيرها، حيث أخفقت في رسم السبل الكفيلة بتطوير ذاتها وتحقيق طموحها، فأصبح مصيرها غامضا وضائعا بسبب اختيارها غير المفهوم الزواج ” بأبي فهد ” صديق أبيها، لم تكن ” الساردة عزيزة ” محايدة في عملية سردها بل كانت ساردة مشاركة في صنع الأحداث وبنائها، حيث تركت لها المبدعة مهمة توجيه الدراما الروائية مع تدخلها في كثير من الأحيان قصد حماية عجزها، ففي عدة منعطفات في الرواية كان يبدو ضمن السياق أن ” عزيزة الساردة ” تقف حائرة أمام بعض اللحظات الشاردة التي تنعدم لديها القدرات الكافية لتدبيرها، فتتدخل المبدعة مباشرة لتصحيح وتيرة الحكي والسرد، من أجل إسناد حركية ساردتها الفتية قليلة التجربة أمام مواقف صعبة تحتاج إلى الحسم السريع الناجع، إن حضور الساردة عبارة عن وجود ذات في العالم، جدارتها تقاس انطلاقا من قدرتها على التحكم التام في العالم حولها، وبالتالي التحكم في المعرفة التي تنتج عن الأحداث المرتبطة بمصائر الشخصيات في نسيج الرواية، ولذلك فعزيزة كانت فعليا معايشة لجميع الشخصيات داخل الرواية، وهي معايشة مباشرة كونها كانت تتكفل بتحديد وتحقيق رغباتهم واحتياجاتهم ومصائرهم، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعتبر وجود الساردة بهذا الشكل كليا ومهيمنا، ولكن المبدعة كانت تتدخل لكي تجعل حضور الساردة أحيانا جزئيا بسبب انقطاع سيولتها السردية، مقلصة بذلك من قدر مساحة الحرية المتروكة لها، لقد كان مشروع المبدعة هو نقل الحقيقة واستحضارها من عمق نسيج الأسر، ولهذا السبب كانت تتدخل لأن ” الساردة عزيزة ” كانت تعجز عن بسط جميع عناصر الحقيقة المكونة للتحول الذي كانت تعيشه الأسرة السعودية داخل الفضاء الروائي، لأن الساردة في الأصل تمتلك وضعا تعبيريا يرتبط لديها بممكنات الكلام والتعبير وبسط الوقائع عن طريق نقل الأفكار والمعلومات والمعرفة المتداولة داخل التشكيل الروائي ككل، وذلك انطلاقا من ممكنات اللغة والتلفظ بواسطة ملفوظات سردية محددة ومنتقاة ضمن الإطار المرجعي اللغوي الذي ارتضته المبدعة لروايتها.

لقد عملت المبدعة على استعادة العالم الخاص بها وبمن يحيط بها عن طريق توظيف صيغتين في السرد، صيغة السرد البانورامي المنبسط، وصيغة السرد التسجيلي التوثيقي، فقد لجأت المبدعة عبر ” الساردة عزيزة ” إلى النوع الأول عندما كانت تلج العوالم الداخلية والخارجية للمجتمع السعودي من خلال وصف التحولات والتغيرات التي طرأت عليه داخل الفضاء الروائي بصيغة البناء التخييلي لتدخل الساردة كذات مشاركة في الكشف عن المسارات والتداخلات التي تثيرها العلاقات العامة والخاصة بين شخصيات الرواية حيث تبرز أمامنا صور الأسواق والطرقات وتطور العمران وطريقة بناء البيوت وتخطيط الأحياء. كما لجأت إلى السرد التسجيلي التوثيقي عندما كانت تعمل على بناء الواقعي القدري ضمن السياق التخييلي للرواية، ويرتبط هذا لدى المبدعة بحسها الصحافي الذي كان حاضرا بقوة داخل الرواية عبر النقل الدقيق والمفصل لكثير من المعطيات التي تبرز أمامنا خصوصا عند وصف ونقل الأحداث التي ارتبطت بالاحتلال المؤلم الذي حدث من طرف فئة ضالة للحرم المكي الطاهر

رواية “غراميات شارع الأعشى” يمكن أن ننظر إليها على أنها رواية بناء القيم، وتتبع تحول القيم وتغيرها، قيم كثيرة تمت عملية تضمينها داخل الرواية من خلال حضورها وغيابها في يقين وسلوك الشخصيات عبر تطور الرواية وتصاعد الأحداث المحيطة بمصير الشخصيات، لم تكن هذه المصائر المحيطة بشخصيات الرواية معقدة أو مثيرة أو محبطة، ولكن واقعيتها المرتبطة بالتخييل الروائي تعكس الأبعاد الوجودية المتجسدة في المصائر، حيث كل الشخصيات لم تكن تنشد إلا الحياة العادية الطبيعية ضمن سياق معروف من العلاقات الاجتماعية التي كانت تتسم بنوع من القيم الجديدة التي بدأت تطرأ على المجتمع  مع تغير الرؤية للعالم لدى كثير من أفراد المجتمع داخل الفضاء الروائي من خلال الإنتاج السردي للرواية عبر التوفق التام في المزج بين الزمان والمكان، إن التوصيف الزماني للأحداث رديف للفكر المستمد من الموروث الثقافي العريق للأسرة العربية داخل الرواية، وتجانست الأبعاد المكانية هي الأخرى مع طريقة التفكير وتدبير الأمور، حيث نجد أن والد ” الساردة عزيزة ” اضطر إلى تغيير مكان سكن أسرته انسجاما مع التطور العمراني والحضاري الذي يعكس التغير الطارئ على الذهنية انطلاقا من التطور الحاصل في صيغ التفكير وإنتاج الثقافة داخل مجتمع الرواية انسجاما مع بداية تكون مجتمع الاستهلاك.

لقد شكلت ” وضحى ” واحدة من الهبات التي أنتجها المكان الروائي الموسوم بالحي السكني، حيث ساهمت جميع الأسر في صنع الحدث المرتبط ” بوضحى ” وأسرتها المشكلة من أبنائها وبناتها، لم يكن حضورها ضمن المكان والزمان المحددين داخل الرواية صدفة، إنها تشكل واحدة من الإمكانات السردية الكثيرة التي لا تستطيع الرواية التفريط فيها، وإلا فإنها ستصبح مبتورة، لقد تزامن السياق السردي في الرواية بكامله تقريبا مع اللحظة الخاصة التي تمثلها ” وضحى ” وأسرتها، إن القيم التي أنتجتها داخل الرواية لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها، حضورها كان يعني القوة والعمل والثبات والتعاون والعزيمة، غيابها كان يعني الوفاء والحكمة والاتزان، بفضل الحضور الطاغي ” لوضحى ” وأسرتها استطاعت الساردة عزيزة أن ترسم أهم العلامات الدالة للمصائر الخاصة للشبان والشابات الذين طالتهم سياقات التغيير والتطور والتحول ضمن الفضاء الروائي، حتى سياقات بروز علامات التطرف الديني لم تكن تستطيع الساردة نسجها وإعداد امتداداتها بدون ” وضحى ” وأسرتها، حيث كان زواج ” سعد ” من ” الجازي ” بنت ” وضحى ” علامة دالة على الطاقة المتدفقة العارمة التي تمتلكها ” وضحى ” في خلق وإنتاج وبالتالي احتضان التغيرات القيمية التي بدأ يعرفها المجتمع الروائي، والتي أدت في أقصى حدودها المأساوية من خلال التطرف الديني إلى احتلال الحرم المكي الطاهر والتسبب في مقتل كثير من الأبرياء، ” وضحى ” إذا هي الذات الوجودية التي ساهمت بقسط وافر في إنتاج التراكم السردي، وفي انسجام السيرورة السردية من خلال تبوأ موقع سردي تأسست عليه كثير من الكيفيات الزمانية والمكانية، كما تم بناء عليه ضبط كثير من الانبثاقات التعبيرية المتعلقة بتوزيع الأدوار من حيث أهميتها وقيمتها عبر شخصيات الرواية، لقد كانت ذكريات ” وضحى “، ونصوصها الواردة على لسانها، وحكاياتها الموازية، وأحلامها، واستيهاماتها، ونجاحاتها، وإخفاقاتها، وحضورها، وغيابها، عبارة عن رصد تاريخي لكثير من الممكنات والاحتمالات الواردة في الصيغ التعبيرية التي ساهمت في مساعدة شخصيات الرواية على اختيار مصائرها وولوجها وعيشها بكل تغيراتها وتحولاتها.

لقد كانت بنات ” وضحى ” ” الجازي ” في المقام الأول، ثم ” مزنة ” من بعدها، مركزا أساسيا ومستودعا لأسرار ” عزيزة الساردة “، ارتباطها بطبيب العيون المصري ” أحمد ” وولعها بصورته وعمله هو في العمق ولع بالنموذج أكثر منه ولع بالصورة، حيث مثل المجتمع المصري في فضاء الرواية مصدرا إلهاميا أساسيا لكل أنواع التفكير في التغير والتحول، تحول القيم الذي كان سريعا في الرواية كان دائما يرتبط بالوافد من المجتمع المصري، ولذلك فإن ” عزيزة ” في الحقيقة لم ترتبط بالطبيب ” أحمد ” بعلاقة حب أو غرام بقدر ما ارتبطت باستحضار نموذج مجتمع غائب بعمقه وحداثته، وحاضر برموزه الغنائية، والسينمائية، وبعض سفرائه ضمن مهن حديثة تتوفر على انخراط واضح بخدمات ذات بعد عاطفي ونفسي، ويبدو هذا جليا عندما عاكس الطبيب ” أحمد ” نوايا ” عزيزة ” فمسخ أمامها إلى صورته الحقيقية وبدأت تراه على غير صورته التي كونتها عنه سابقا، لقد تهاوى النموذج في نظر ” عزيزة ” وتحطم تمثاله الصنمي عندما لم يستطع إشباع طموحاتها في ولوج الحقيقة الحداثية التي لم تكن سابقا إلا عبارة عن رموز متحولة وأصباغ زائلة، فابتعدت عنها مسرعة وأقبلت على صديق أبيها ” أبو فهد ” فلم تجد لديه هو الآخر ما تصبو إليه، فاختلط لديها الثابت بالمتحول، وتساوى عندها الأصيل بالمعاصر، فغاب عنها الهدى، وفقدت القدرة على تمييز مصيرها وتحديد طموحها، فدخلت في مجال الغموض والإمكان والاحتمال.

رواية ” غراميات شارع الأعشى ” لها خصوصية بالغة تتجلى في كثير من مكوناتها الروائية، حيث أفلحت المبدعة في إثارة الانتباه إلى مفهوم القيم من حيث الثبات والتحول، وتجاوزت الأمر إلى محاولة التسلل إلى طبيعة الموضوع وعمقه من خلال مناقشة وتحليل ومراجعة بعض المسلمات والإمكانات، ثم هذا التماسك الدقيق في عملية السرد المبنية على متواليات سردية سريعة الإيقاع تصل إلى حد اللهاث وراءها حيث كانت الساردة تسير بسرعة قياسية إذ يبدو أن غنى المعطيات ووفرتها هي التي كانت تدفعها للإسراع والعجلة، وكانت اللغة الموظفة لغة قوية ومعبرة وسليمة مع استعمال تعبيرات محلية ذات بعد وظيفي يعمل على تبليغ المعنى وضبط الدلالة، ثم كثرة التشبيهات الجميلة والأنيقة والمتناغمة ذات المرجعية الأصيلة التي كانت تؤسس في بعض الأحيان لعلاقات استبدالية استعارية مضيئة ومنيرة بشكل بديع ومتناسق. 

.. 

      

مقالات من نفس القسم