“سوف أظل أبيع البوظة لآخر يوم في حياتي ” . هكذا يعلن البطل الذي يعيش أغرب الأزمنة وأعجب قصص الحب.
نقلت الرواية عن لسان عدة شخصيات , بين عام 1969إلي عام 2012, وتفصح الرواية عن سؤال( باموق ) الملح عن العزلة , والإنتماء , والفقر , والسعادة , بخلاف روايتي(متحف البراءة 2009) و ( ثلج 2004).
من ناحية ثانية ,أظهرت هذه الرواية اهتماما أقل بالمقارنة بين الشرق والغرب, و لأول مرة يحكي باموق عن مدينته الحبيبة من عيون الطبقة العاملة الأناضولية .
برغم أن (ميفلوت) يذكرنا إلي حد ما بالشاعر( كا ) في رواية ( الثلج ), لكنه ليس واحدا من شخصيات الطبقة المتوسطة النمطية لباموق.
فقد ترك مفلوت أمه وقريته (كونيا )بعمر الإثني عشر, كان عليه أن يذهب لأبيه وعمه في اسطنبول معذبا بطول ساعات العمل والوحدة , وقد وجد نفسه وسط انقلابات عسكرية من عام 1971 إلي عام 1980, وصراعات بين الأكراد والعلويين , كما عاني صولات وجولات الصراع القومي , والتطرف , وفوق كل شيء علاقته المريرة بأبيه .
حين أنقذه حب (سميحة ), الفتاة التي قابلها مرة واحدة في حفل زفاف ,وكتب لها الرسائل الغرامية علي مدي ثلاثة أعوام , خدعه ابن عمه , حيث ورطه بالهروب مع الفتاة الخاطئة… (رايحة ) أخت (سميحة ) الكبري , اعترف (ميفلوت ) أنه كل هذا الوقت يضمر غرابة في عقله, مستحضرا بيت شعري من قصيدة ( المقدمة ) للشاعر (وردزورث )*1.
حكي (باموق ) الرقيق الشفوق , يصف غرابة فطرية في (ميفلوت), والذي يمثل قلب الرواية , وقد صيغت هذه الحالة بالتوازي مع تحولات تركيا في أواخر القرن العشرين . فهو غير متعلم , وبدون رأس مال , مثل معظم المهاجرين لإسطنبول, عمل بوظائف متعددة , سايس , ضابط أمن , بائع أرز و آيس كريم , اوراق يانصيب , او جامع ديون.
ورغم انقسام تركيا السياسي والاقتصادي عام 1980 يعلن (ميفلوت )أن استقلالها يفتقر لأي شكل من أشكال الوعي الطبقي .
(غرابة عقلي ) رواية مشربة برؤى مزخرفة, معبرة عن التغيير على أرض إسطنبول , والطابع الاقتصادي لتركيا , وميلاد سلسلة من المطاعم , والسوبر ماركت , ومراكز التسوق , ومصانع المشروبات المعبأة , والعديد من الصناعات الغذائية والاستثمارات العقارية في أفق اسطنبول .. العواقب الاقتصادية للانقلابات العسكرية , وظهور الأثرياء الجدد .
وسط هذا التغيير المربك السريع , عفا الزمن علي (ميفلوت) بائع البوظة بعد أن فقد فرص تنظيم المشاريع , وأصبح أجيرا مكتوف الأيدي ،كان يجوب شوارع اسطنبول , يملأ أطباق قلة من المخلصين لشرب البوظة , مجردا من رغباته الجسدية ,مرتاحا في عزلته كدرويش .
شهوة التلصص *2 , ونزهاته الروحية وعدم الاكتراث بالمادية , لغز ساذج جعل (ميفلوت) موضعا للسخرية بين أصدقائه الانتهازيين .
قد تكون عاداته البوهيمية محيرة , وخياراته المهنية غير مفسرة , ومع ذلك ومما لا شك فيه ان (ميفلوت) هو احد شخصيات (باموق) التي تعيش علي سجيتها ولا يمكن إغفالها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*1 – ويليام (وردزورث) شاعر انجليزي رومانسي من اعماله قصيدة (المقدمة ), بدا (وردزورث) قصيدته المقدمة عام 1798 وهو في الثامنة والعشرون , وعمل عليها خلال سنوات حياته , وهي القصيدة التي عالجت سيرته الذاتية , لم يعطها ابدا عنوانا , فكان يدعوها (القصيدة التي لم تكتمل) , في خطابات لشقيقته (دورثي وردزورث) أشار اليها (بالقصيدة التي تنمو في عقلي ) , ولم تري هذه القصيدة النور الا بعد وفاة ( وردز ورث ) بثلاثة اشهر عام 1850 , وقد أ خذت القصيدة اسمها النهائي من ( ماري) أرملة وردزورث.. من اعماله الشعرية ( تجولت وحيدا كسحابة – الأناشيد الغنائيه ) .
*2 – لذه جنسية من التطلع الي الأعضاء الجنسية للآخرين .
* سارة سعيد قاصة ومترجمة مصرية
–