عين شمس .. لقد دب السرطان في كل شئ بالفعل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رامي عبد الرازق *

في أحد مشاهد نهاية الفيلم وفي اللحظة التي يقرر فيها الأسطى رمضان والد شمس ان يصطحبها إلى وسط البلد لتحقيق الامنية الاخيرة والأثيرة لدى طفلته المحتضرة يكتشف ان زجاج التاكسي الخاص به قد دب فيه سرطان قضى عليه وعبر لقطة قريبة للعروق الزجاجية المسرطنة نكتشف فجأة ان السرطان لم يدب في جسد شمس فقط وأنما في كل شئ من حولنا ويتطابق هنا المستوى المادي للسرطان كمرض يمكن ان تسببه قنابل اليورانيوم المخصب الامريكية في العراق او تسببه المبيدات المسرطنة في مصر مع المستوى الرمزي الذي يمنح هذا المرض الخبيث والقاتل اكثر من معنى سياسي وحياتي وفلسفي وعند ذلك المشهد تحديدا يمكن ان نتوقف قبل النهاية ونعيد مشاهدة الفيلم باكمله لا من منطلق حبكته الاجتماعية المليودرامية عن فتاة صغيرة ابنة سائق تاكسي متوسط الحال تسكن في حي عين شمس وتصاب بالسرطان فتنطفئ"شمس"روحها ولكن من زاوية تقصي أثر هذا السرطان في حياتنا كمصريين

وكعرب وكبشر في هذه اللحظة من تاريخنا ووضعنا الانساني والحضاري وعبر دراما ساكنة السطح جياشة العمق يفسح فيها الزمن الدرامي مساحة كبيرة للزمن الواقعي الطبيعي الذي نتنفسه جميعا بداية من رجال الاعمال الذين يخوضون غمار البيزنس وينتهي بهم الحال إلى السفر هاربين للخارج محملين بما اقترضوه من قوت غيرهم ومدخراته مرورا بالمتسلقين من اصحاب الطموح السياسي المنحسر في حصانة المجلس وسلطته وصولا إلى الشباب الذين يحلمون بالقفز خارج اسوار ما كان يسمى بالوطن وصار يطلق عليه كما في الفيلم”البلد دي”وأخيرا نستقر عند اقدام الامهات الائي يشاهدن اطفالهن يوميا نهبا لامراض خبيثة كانها عقاب على ذنوب لم ترتكب.

في هذا الفيلم لا يقدم البطوط صراع تقليدي بين خصوم تقليديين ولكنه يقدم صراع اشبه بصراع المسرحيات الاغريقية التي كان الأنسان فيها يقف عاجزا امام ضربات القدر الممثلة في لعنات الألهة لكن هذا العجز يتنوع ما بين عجز اجتماعي سببه ضيق ذات اليد او الوقوع تحت تصرف انظمة سياسية ومجتمعية فاسدة وفاقدة للحس والضمير(سرطان سياسي) أوعجز انساني امام نوازع الطمع وشهوة المال والسلطة(سرطان روحي)وهنا نجد أن ما فعله الأمريكان ابان حرب الخليج الاولى عندما قصفوا الجيش العراقي المنسحب بقنابل اليورانيوم المخصب المسرطنة-كما نعرف في بداية الفيلم من خلال كاميرا شخصية الدكتورة مريم في العراق-يتساوى وما تفعله الانظمة القمعية التي تطلق عساكر الامن المركزي لضرب المتظاهرين واعتقالهم كما نراها من خلال وصلة الدش التي تنقل لعمرو فني الوصلات ما يحدث في”البلد دي”ولكن من خلال قناة “بلد”أخرى..هذه الدراما الغير تقليدية والتي تتراجع فيها الحبكة المعتادة لصالح محاولة التعبير عن هموم شخصية ومجتمعية تقوم على اكتاف شخصيات هي اقرب لما كان يطلق عليه روبير بريسون الموديل وليس الممثل ففي رأيي ان بطوط لم يقم باختيار ممثلين لفيلمه وانما اختار نماذج بشرية تكاد تتطابق في ملامحها الخارجية والداخلية مع شخصيات السيناريو الذي كتبه بحيث تتحقق تلك المصداقية التي تتماس بشكل كبير مع التسجيلية وليس أدل على ذلك من استخدام اسماء بعض الممثلين الحقيقة كأسماء لشخصيات الفيلم ويكفي شخصية قلبظ ابن البلد كدليل ثم هناك مساحة الأرتجال الواسعة في الحوار والتي جعلت من بعض المشاهد متعة في التلقائية والفطرية مثل مشهد تناول مدرسة شمس للقهوة مع والدتها وتبدو الروح التسجيلية التي تمثل خلفية المخرج التكنيكية حاضرة بشكل كبير بصريا وايقاعيا في الفيلم بل أن بداية الفيلم تبدو تكنيكيا اقرب للتسجيلية البحتة سواء على مستوى الصورة أو التعليق الصوتي والذي ظل استخدامه غامضا صحيح ان البطوط جعله اشبه بالاقواس حيث بداء به الفيلم معرفا وشارحا ومحاولا أن يربط ما بين ما يحدث في العراق وما يحدث في مصر على المستوى الرمزي في صورة راوي عليم ثم انتهى به الفيلم حاكيا ما قد حدث بعد ان رحلت شمس وكان ما كان بالنسبة لكل الشخصيات ولكن ما بين هذين القوسين ظل هناك شئ مفتعل او مقحم في صوت هذا الراوي ربما لكونه شرح بعض مما رأينا في البداية فبدا زائدا عن الحاجة بل ومشوشا او ربما لانه حاول ان يشرح سبب وجوده في لحظة كسر ايهام ايضا سببت بعض الحيرة عندما قال(انا مين مش مهم صوت زي اي صوت ممكن تسمعه)ولا يوجد حاجه درامية لتبرير اي راوعليم لكونه راوعليم اضف إلى ذلك انه رغم جمال الروح التسجيلية في الفيلم إلا أن بعض المشاهد اصبها ترهل ايقاعي نتيجة تارجحها ما بين الدرامية والتسجيلية مثل زمن مشهد الفرح والذي يمثل ايضا عدم فهم تقني من ناقلي هذا الفيلم من الديجيتال إلى الشريط ال35 حيث أن المشهد بصريا مصور بتكنيك كاميرا الأفراح بنفس رداءة اضائتها مما يعطيه في الدجيتال انطباع واقعي خشن وفني بينما في السينما جعل لقطاته مشوهةاو”لاسعة” بالتعبير الدارج.

كذلك استغرقنا السيناريو في البداية في قصة الصياد العراقي الذي خرج من سجون صدام بعد12 سنة ومحاولته للعودة إلى ممارسة حياته بشكل طبيعي ولم نتمكن ابدا من الربط بينه وبين شخصيات الفيلم حيث وصل التشظي هنا إلى درجة ابعد من استيعابنا خاصة ان الفيلم ليس تسجيليا بحتا فهو في النهاية له قوام درامي يجب المحافظة عليه لضمان وعي المشاهد وليس تشويشه ولأننا جميعا استغرقتنا عين شمس بكل تفاصيلها ونسينا الصياد تماما ولم يكن البطوط واضحا في مسألة ذهاب شمس وأمها لزيارة شجرة العدرا واشعال الشموع هناك في محاولة باطنية للدعوة بشفاء شمس حيث ان الخلفية الشعبية الأسلامية لأسرة رمضان كما فهمناها كانت ستصبح اكثر منطقية لو اتجهت لولي مسلم او لولي مسلم وللشجرة القبطية ولكن الاكتفاء بالشجرة القبطية جعل المسألة اشبه”بتحيا الهلال مع الصليب”رغم أن فكرة لجوء الأم(ام شمس)إلى ام مثلها(السيدة مريم)المقدسة طمعا في شفاء ابنتها فكرة درامية جميلة ومعبرة لكنها على المستوى الاجتماعي لم تمنطق دراميا بالقدر الكافي وإن رسمت صورة جميلة عن سر خيال شمس الواسع النابع من حكايات امها التي نقلنا المخرج بصريا إليها من خلال ايقونات ورسومات قصة المسيح كما تحكيها الام وكأننا في خيال الفتاة المتصور للحكاية.

ان اهمية عين شمس وقوته لا تأتي فقط من كونه فيلم راق المستوى ذو حساسية سينمائية مختلفة لكنه ايضا فيلم يعبر عن جوهر السينما الحقيقي كمحفز وجداني وفكري في مجتمع يعاني من انحطاط حضاري ينعكس في افلامه الاخرى التي تتغذى على ظلام العقول وجهل النفوس التي لا ترى الشمس.   

     

سيناريو : تامر السعيد- ابراهيم البطوط

إخراج : ابراهيم البطوط

إنتاج : شريف مندور

مدة الفيلم : 95 دقيقة

ـــــــــــ

* ناقد سينمائي مصري

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم