فيلمان لسورينتينو..بين البحث عن الجمال والذات

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
إسراء إمام جميل فى السينما على وجه الخصوص أن تمتلك بصمتك، وتخلق مدرستك وتُضّمن حكاياتك على الشاشة قدر من روحك من فلسفتك وتفكيرك، والأجمل أن يمتزج كل مؤديات هذا الاختلاف جماعا ليتوه العنصر الذى يحمل اسمك فيما بين ابداع مصور وفكر متناسق ومتسق ومعالجات جريئة مغايرة تماما للعرف السائد وإطار محكم يطوى بين حناياه كل ما سبق.

 سورينتينو من المخرجين الذين يمتلكون عالمهم السينمائى بالشكل الموصوف سلفا، فهو لا يلتزم بأفق ما فى أطروحته السينمائية وإنما يدشنها كبراءة إختراع تحمل اسمه فيما بعد، وبين فيلمين له هما la grande de bellezza  (الجمال العظيم) وthis must be the place  (هذا يجب أن يكون المكان) يمكننا أن نسلط بعض الضوء على طبيعة عمل هذا المخرج ومن قبله منهاج فيلميه فى قوامهما المتقارب شكلا والمستقل مضمونا.

رحلتان يجمعهما البحث

يصوغ سورينينو فى فيلميه رحلتين مقصدهما البحث، قوامهما البطل الذى يمضى إلى جانب العالم وهو يترقبه بتأملية تامة وذهن متيقظ له ترجمته الخاصة التى لا تخضع لمعايير العيان، (جيب) بطل فيلم “الجمال العظيم” تجده كاتب مستغرق كليا وتماما فى استيعاب تراكيب المحيط من حوله بداية من ملامح روما الحديثة ومرورا بتفاصيل شخصية أصدقائه وجيرانه ونهاية بحقيقة وماهية الحياة بأكملها باحثا فى كل ذلك عن مفهوما نقيا للجمال قد يدفعه مرة أخرى ليعاود التأليف بعدما انقطع عن الكتابة بعد روايته الأولى التى لم يصدر غيرها. فى المقابل نجد البطل (شيان) فى فيلم “هذا يجب أن يكون المكان” يبدأ رحلته فى اكتشاف معنى لذاته التى اندثرت بعدما رأى نفسه مجرما تجاه عدد من معجبيه الذين لاقوا حتفهم انتحارا إثر انفعالهم بكلمات أغانيه المحبطة.

أوجه الشبه من حيث الحبكة

البطل فى الفيلمين فى مرحلة تأزم يفتقر فيها إلى موهبته، يمقت فى شدة الأجواء من حوله ولا ينتمى إليها يقوى على مصارحة نفسه بعدميته وجدواه التى لا طائل منها وإن كان “شيان” أكثر صراحة من “جيب” فيما يخص سبب المعاناة التى يحياها فى افتقاره لموهبته، فهو يرى نفسه مجرمة مسئولة عن اهدار حياة آخرين أكثر مما يراها نفسا تجود بالفن، وعلى الرغم من ذلك تجده على جرأة تجعله يبوح بسهولة عن ذاك المكنون المعقد الذى تمكن منه وأكل روحه وهويته، على العكس من “جيب” الذى يتهرب طوال الفيلم من سؤال من حوله حول توقفه عن الكتابة، فتراه يتعذر أحيانا بجو روما الداعى إلى التشتيت أو يتجاهل السؤال فى حينا آخر. حتى فى طريقة تملص “جيب” لعالمه كان محايدا يحمل الكره والاحتقار لكل من حوله بينما يستمر فى مجاراتهم والانغمار معهم فى آن داخل أغوار هذه الحياة التى يوصفها بأنها تافهة، بينما نجد “شيان” ينأى بنفسه بعيدا عن كل ما يثير فى داخله رعبا وألما، ينقطع عن ممارسة العلاقة الزوجية مع زوجته ويكتفى فى أن يدفع بها لتلبغ النشوة إلى الجنس الفموى لأنه يهلع من أن ينجب طفلا يوّرثه جيناته السلبية التى تمتلأ عن آخرها بالاحباط والاكتئاب، ولنفس السبب يهرب من معاشرة أخريات يشتهيهن ولكنه يكبح جماح نفسه بقوة حتى لا يواقعهن ويورط نفسه معهم، وعلى الرغم من تلك الاختلافات الطفيفة تجد البطلين يشتركان فى جرأتهما فى مواجهة الآخرين بحقيقتهم، مثلا ترى “جيب” يصر فى سؤال فتاة _تقدم عرضا غريبا وهى تعدو عارية ثم ترتطم رأسها بالحائط_عندما كان يجرى معها مقابلة عن معنى كلمة قالتها فى جملة وهى تتحدث ” أنا فنانة تحيا على الاهتزازات” فيلح بنبرة ساخرة طوال جلسته معها عن معنى الاهتزازات التى تقصدها. يحدث الشىء نفسه بمنحى أكثر وضوحا فى المشهد الذى يباهت فيه سيدة ارستقراطية من اصدقاءه بكُنه حياتها المزرية عندما تستفزه وتقول أنها سيدة تعانى وتبذل الكثير وتضحى من أجل أسرتها. على نفس المنوال تجد “شيان” يباغت رجل الأعمال الذى يجالسه بموقفه السلبى منه بطبيعية تجعل الرجل يظن أنها دعابة وهكذا.

البطلان يملكان القدرة ذاتها على التأمل، فتجد شيان يحدق فى الشاب الذى ينزلق اثر تزحلقه فى الشارع ويلاحظ الرجل ذو الأوشام الكثيرة فى الحانة ويقول له فى لهجة متفكرة “عندما رأيت الأوشام على جسدك تساءلت هل أحبها ؟”، بينما جيب فالتأمل عنده منهاج حياة فهو يتنصت لأحاديث العامة بالشوارع ويتمهل فى النظر للمياه والمركب الصغير الذى يعتليه، يطوف المعارض وتشغله حركات الراهبات والأطفال، يراقب جاره ويميز نوع ملابسه، ويزورعيادة أطباء تجميل فى مشهد نصف واقعى له رمزيته البحته.

والملحوظ أيضا التشابه فيما بين طريقة السرد التى قدمت ردود فعل البطلين المُسبقة ومن ثم فسرتها، فنجد شيان فى بداية الفيلم يسخر من أحدهم عندما كان يتباهى بعدد إخوته، ويدير عينينه عن إمرأة من الواضح أنها تعجبه عندما تنتبه هى إلى نظراته، وفيما بعد نعرف على لسانه أنه يخشى انجاب الأطفال، مثلما نرى رجل ينهره بشكل فج وهو يزور أحد القبور فى موقف نفهم منه لاحقا أن القبر كان لأحد معجبيه المنتحرين متأثرين بموسيقاه وأن من كان يبوخه هو أبو الشاب، يتكرر الأمر عند جيب وخاصة فى حكاية عشقه مع اليسا حيث يجيئه زوجها ليخبره بأنها ماتت ليبكياها معا و يتحدثان عنها ويُسبهان فى الحديث وأنت من الأساس مازلت تتعرف على هويتها من ثرثرتهم. وفى فيلم الجمال العظيم على وجه الخصوص انفتح سورينتينو أكثر فى توسيع نطاق سرده فاطلق لخيالك القدرة على توصيف لقطاته وتعمد ألا يجعل لها تاريخ أو مستقبل وظهر هذا بشكل مكثف عندما تلاقى جيب بشكل عشوائى بينما كان يتجول فى المدينة مع امرأة يتضح أن  ثمة ماضى ما يجمعه بها فى الوقت الذى اكتفى فيه كل منهما بالتحية وبكلمات خاصة جدا تحكمها لغة عيونمها.

فى كل من الفيلمين يبقى ركنا أساسيا من قوائم الحبكة على المشاهد التى تجمع البطلين مع أغراب عشوائيين، فشيان يقابل رجل الأوشام والرجل الذى يتحدث معه فى مشهد بديع عن بداية اختراع عجلات الحقائب والتى خففت الكثير من العبأ على المسافرين، كذلك جيب يقابل تلك الفتاة التى تختبأ من والدتها فى مكان يملك بعض من ملامح روما القديمة والتى تسأله فى لهجة متهكمة “من أنت؟” فيتلعثم أمام سؤالها لتجيبه بنفس النبرة “أنت لا أحد”، كما تجد لوجود ظهور الأصدقاء القدامى مكان ثابت فيقابل جيب صديقه الثرى الذى يتعرف على ابنته”رامونا” ليتوقف عندها كمحطة تسِلل عدد من المتغيرات فى حياته، كذلك الأمر عند شيان فهو يقابل صديقه المطرب القديم وبعدها يلتقى بفتاة المطعم التى تماثل وجود رامونا فى حياة جيب .

التشابه على مستوى الصورة

فى كل من الفيلمين، تتأنى الصورة فى التقاط الكادرات الفوقية والبانورامية التى تتحرك بها الكاميرا بهدوء وابهار، ولكن الملفت والمختلف لدى تورينتينو أنه مال لتوظيف حركة اللقطات فى أكثر من موضع داخل الفيلمين، فمثلا استخدم اللقطات السريعة الخاطفة فى افتتاحية فيلم الجمال العظيم وهى اللى دلت على مضمون تمهيدى تحضيرى مُلفت والطريقة ذاتها تم تنفذها فى فيلم هذا يجب أن يكون المكان، عندما كان شيان يراقب السيديتين المسنتين قبل أن يدلف منزلهما كضيف، بينما تغير وقع اللقطات فيما بعد عندما قرر أن ينتظر ليتسلل إلى المنزل ليلا فبدت اللقطات مرتبكة مقطّعة بدقة وسرعة وقِصر موحى وهو التكنيك ذاته الذى استخدمه تورنتينو فى مشهد توسل زوج اليسا إلى جيب بينما كانت تمر الراهبات إلى جانبهما فى الوقت ذاته الذى ينهمر فيه المطر من السماء مما يدعو للكثير من الوتر والضغط المكثف.

الجماليات المستقلة فى كل من الفيلمين

يعتبر فيلم الجمال العظيم، رحلة أكثر مشقة وارهاق من مثيلتها على الصعيد الآخر فى فيلم لابد أن يكون هذا هو المكان، فهى رحلة أكثر فلسفية وتنقيب عن بواطن الحياة، عبر عنها تورنيتو بشتى الطرق بداية من كتابة الحوار وصياغة الحدث ونهاية بالصورة، فتجده يضع لك أكثر من مشهد هزلى غير قابل للتصديق (مشهد دكتور التجميل، مشهد لعب بعض السيدات القمار داخل متحف أثرى)، ومن ثم يسلط أضواء على شخصيات هامشية مثل مشهد نزيف أنف الموديل التى وصفها البعض فى مشهد سابق بأن جسدها فسد كعقلها، كما تراه ينتقل بك فى رحلة غامضة ساحرة ومشوقة داخل  أحد المتاحف راسمة لواحد من توصيفات الجمال، فهو هنا لجأ لأكثر من طريقة مغايرة ومتناقضة للتغلغل داخل معنى الحياة والتنفيد بين ركامها المكوم هنا وهنا عن معنى الجمال ومعان أخرى خفية، والأكثر اذهالا انه جمع كل هذه المتناقضات السردية على أرضية ثابتة موحدة لا تستهجن فيها ولو واحدة منهم على الأقل بل تقبلها فى سياقها وفى اطار النسق العام الذى أعده للفيلم.

مشهد الإفتتاحية الذى يُقدم مرثية شاجنة لفوضوية الحياة فى هدوء، بينما يليها مشاهد الصخب والعربدة التى يحياها البطل وسط أصدقائه بشكل مُسهب يجعلك تتقبله بينهم بصدر رحب ومن ثم فى مشهد الرقصة الجماعية يخرج من بين الصفوف ويشز عنهم بينما يتشوه صوت المزيكا المصاحبة مع العمد فى تباطىء صورة حركة الجمع والتقاط وجه البطل فى كادر يقترب منه بهدوء وهو يقدم مكنونه المختلف عن كل ما رأيت، إنه نفس مبدأ كل شىء يبدو خدعة وهو المبدأ الذى ألح السيناريو على توضيحه فى أكثر من موضع منها مشد الفتاة التى تبكى بينما تُبدع فى النهاية لوحة رائعة ليصبح البكاء جزءا من العرض، والمشهد الذى تسير فيه رامونا حبيبة جيب داخل المتحف الأثرى فى رواق يبدو وهى تتخطاه كبيرا ومن ثم يبدو فجأة صغير الحجم فتقول لمن حولها فى لهجة فرحة مكتشفة “أرأيتم بدا كبيرا ولكنه صغيرا”، والمشهد البصرى البحت الذى تتبدى فيه الطائرة فى السماء فى وهلات ظهورها الأولى وكأنها قمر، فكل شىء حولنا ليس كما يبدو وإن الأمر مجرد خدعة وهى قاعدة من قواعد الحياة التى يكمن لا شك فى جوفها جمالا ما، كما أن لترميز الحوار كان الدور الغير هيّن وقد ظهر ذلك بكثافة فى المشهد الذى تسأل فيه رامونا الرجل الذى اقتادها هى وجيب إلى المتحف ” من أين أتيت بكل هذه المفاتيح؟؟” فبادرها بالرد المطمئن “أنا رجل موثوق به” فهو من دلهم على رحلة جمالية ضخمة فتح عليهم فيها مغاليقها بسهولة، أتراه يرمز لمفهوم دينى عندما تفوه “انا شخص موثوق به  “؟؟ أى مدعوم من الله لذلك يمكننى أن أرى الجمال وأدفع بالناس لمشاهدته ؟؟.

كذلك برع سورينتينو فى تصوير المشهد الذى كان يسترسل فيه جيب وصفه عن الفتاة التى أحبها، ومن ثم ينقطع عند نقطة معينة لا يفقه أن يكمل بعدها شيئا غير المحاولات التى باءت بالفشل وكأن هذا التعلثم يرمز لمعاناته مع الكتابة وخاصة أنه جاء إثر سؤال رامونا له عن سبب توقفه عن الكتابة.

أما فيلم (يجب أن يكون المكان) فهو رحلة انسانية أكثر ولهذا فهى إن ظهرت عليها بعض إمارات الغرابة تظل منغمسة داخل انطباع ربع تقليدى من السرد، كسر من اعتياديته بشدة مشهد الرجل الذى يركب السيارة مع شيان من دون علمه ثم يطلب منه التوقف ويترجل مبتعدا عن السيارة فى داخل منطقة نائية ترصد الكاميرا وحشيتها بكادر واسع، ولأنها رحلة انسانية فى أيضا  تجد ملامح شخصية شيان قوية بارزة من أدق الأشياء لأكبرها أكثر وضوحا طريقة نفخه فى خصلة شعره الجانبية من حين لآخر، وكذلك جاءت التفاصيل الدقيقة للشخصيات من حوله ومنهم أبوه وتفصيلة تدوين أرقام التليفون على ذراعه، وشخصية صديقة مدرّسته تلك المرأة الانفعاليه الظنونة والتى فصّلتها الكاميرا تفصيلا، وشخصية المدرسة ذاتها التى تبدو متماسكة ولكن داخلها هش أكثر مما ينبغى، وغرابة اطوارهما معا وهن يقتنيان وزة ويتعاملان معها على أنها شخص يتثلثهما.

فيلمى سورينتنو سبق وأن تم عرضهما فى مهرجان كان ففاز فيلم (لابد وأن يكون المكان) بجائزة لجنة التحكيم عام 2011، بينما ترشح فيلم الجمال العظيم لجائزة السعفة الذهبية عام 2013 .

آخر كلمتين:

_أفيش فيلم الجمال العظيم، غاية فى التعبير والدلالة على حياة البطل الخاوية على الرغم من مضمونه المعقد الثرى، والذى يُرمز إليه فى الأفيش بالتمثال الضخم الجميل الذى يستند إليه فى الوقت الذى تغمره مساحة واسعة من الفضاء فيما حوله.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقدة سينمائية مصرية

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم