هدية حسين
بين أوهام المعتقدات وحقائق الواقع يبنى حسن عبدالموجود معمار روايته عين القط التى صدرت عن دار ميريت للنشر والتوزيع 2004 يستل من الذاكرة الشعبية حكاية الطفل الذى يدخل فى جسد قط، ومن خلاله يتلصص على أشرار الناس ويفضح نواياهم.
عين القط ترصد عالم القرية بأبعادها الاجتماعية المشوهة، وناسها المهمشين.
ولأن الناس البسطاء فى تلك القرية يعتقدون أن أصغر التوائم تفارقه روحه ليلاً وتحل فى جسد قط لذلك اطلقوا عليه اسم قط.. ومن المعتقدات المتداولة أيضاً أنهم لا يوقظونه ليلاً وإلا سيموت لأن روحه فى تلك اللحظات تكون خارج جسمه وأنها حين تعود يجب أن تجد الجسم على الحال الذى تركته فيه.. لذلك فإن أم الطفل ــ قط ــ تقفل عليه بالمفتاح حتى لا يوقظه أخوته فيموت.
>>>
فكرة عين القط كان يمكن أن تكون أكثر عمقاً، فتكشف المخبوء من الأفعال الإنسانية التى قد لا تخطر على البال وليس الأفعال العادية التى يمكن أن يعرفها أى متلصص من بنى البشر.. لكن الروائى حسن عبدالموجود له رأى آخر إذ يقول فى حوار نُشر له مؤخراً:
قيمة هذه الحيلة أى عين القط، تتيح لى أن أنقل للقارئ ما وراء الأبواب وإلا سوف يسأل القارئ كيف عرفت ما عرفته، خاصة المخبوء منه، وهذا ينطبق عل نصف الرواية على الأقل.
من الشخصيات التى أولاها المؤلف عناية كبيرة شخصية الخفير حناوي وهو رجل فضولى سليط اللسان، يعطى نفسه أهمية أكثر مما تستحق، ويقول جملاً أو أمثالاً مبتكرة، معتقداً أو واهماً بأنها حكم.. الناس فى نجع السناوي يعرفونه جيداً، فهو مفضوح وغير مرحب به، ولذلك فإنه يختار جمهوره من الغرباء الذين يمرون بالقرية الواقعة على حافة المدن، ويبدو أمامهم كأنه رجل مهم بإمكانه أن يلبى طلباتهم، ويروح يتحدث إليهم بكلام لا يفهمه الآخرون، لأنه اعتاد أن يعمم الكلام.. لكن الغرباء ومن أجل قضاء حاجتهم يصغون إليه ويتعاملون معه باحترام.. وللنساء حصة من النميمة على لسان حناوي.. هذه تخون زوجها، وذاك يضرب حريمه بالعصا، يسأل قط عن سميرة زوجة الجزار عبدالسميع.. وعن زوجة بطرس التى يطلق عليها “الهايجة” وكان قد أشاع عنها بأنه تغوى الشباب، وعندما انتشرت الشائعات قام إيليا ابن بطرس بضربه ضرباً مبرحاً مما استدعى معالجته فى المركز الصحي.
وبين الحقيقة والوهم اليذ يعشش فى الرؤوس نجد أن روح قط تحلق عالياً.. تطير بعيداً عن جسدها كل ليلة، تتجول فى سماء القرية وفى شوارعها المظلمة والخالية من الناس غالباً.. لكن الأمر محير بالنسبة لقط، فهو لا يدرى إن كان يعيش حلماً أو يجثم على صدره كابوس رهيب.. وهو فى الأحوال جميعها يمضي، فى حلمه أو كابوسه أو حقيقته، وإذا ما صادفه قط أثناء تجواله اندفعت نحوه قوة غريبة تجعله يخترق جسد القط، فيشعر ذلك القط بأن شيئاً ما تغير فى جسمه.. لكنه لا يدرك الأمر على النحو الذى يعرفه قط، الإنسان.
ولأن القط الذى اخترقته الروح يعيش فى بيت أبوعثمان، ويتنقل فى عدد من البيوت، صار بإمكان قط أن يتجسس ويعرف ما يدور فى البيوت ومن ثم يزود حناوى بالأخبار.. ويصدف أن يدخل القط والروح التى تلبسته إلى بيت سنية زوجة صلاح الموظف بإحدى الشركات، فتكون فى وضع حميم مع عشيقها عباس.. وحين يبدأ القط بإزعاجهما يركله عباس بقوة، ثم يضربه بخشبة.. وسيشعر قط حين يعود إلى البيت بالألم فى كل انحاء جسده.. وسيخبر أمه بأن عباس هو الذى ضربه بسبب ما رآه، فتندفع الأم لتوبخ سنية وتهددها بالفضيحة.. وفى مرة أخري، كاد قط يتسبب فى مقتل تفيدة بائعة الأقمشة والمواعين الألمونية، عندما أخبر أهل القرية بأن شاباً من قرية أخرى يأتيها كل ليلة لكنهم اكتفوا بطردها من قريتهم.
>>>
كل ما يدور فى القرية من أحداث، ومشاحنات وغراميات، يقع ضمن حدود المعقول إلا ما يقع لقط، بين الإنسان والحيوان تتلظى روحه، وتعذبه الأسئلة، احاطتنى أسئلة عن وجودي.. هل أعيش حقاً فى شكلين مختلفين أحدهما قط الذى يمارس حياته فى الصباح، والآخر الروح التى تنتقل فى القرية ليلاً؟.. ثمة ما يشير إلى أن ما يحدث لى حقيقي، العالم الذى أراه بالأبيض والأسود من خلال عيون القطط، الاسطح التى تتراءى لى من أعلى على هيئة مربعات صغيرة، لسعة البرد التى أشعر بها أحياناً، لكن هناك أيضاً ما يؤكد أن المسألة كلها لا تتعدى نوعاً من الهذيان، أفكر لو أن عقلى كان يمتلك فى أحد الأيام نوعاً من القدرة على تنظيم العالم حينما أدخل الحلم، بحيث تتحول حياتى إلى عالمين، عالم أحياه فى الصباح، والعالم المسائى الآخر الذى انتقل إليه.
هكذا أرادها حسن عبدالموجود، رواية بين المعقول واللامعقول.. بين الحلم والصحو، بين الناس البسطاء ونزواتهم أو نزعاتهم.. وليس ثمة غموض فى كل ما يحدث برغم الاتكاء على أسطورة روح القط التى تتأرجح فى مخلبتنا بين الشك واليقين أو بين الوهم والواقع.
>>>
لعل شخصية حناوى هى دينامو الرواية، محركها وباعث عنصر التشويق فيها، برغم أنه شخصية مجبولة على حب الإيقاع بالناس وافتعال المعارك وإثارة الشغب.. ولأنه يعرف سر قط.. وإحلال جسده فى القطط فإنه يقوم بمساعدة عدد من اتباعه بقتل القطط ثم جمعها وسكب مخلفات الأدوية عليها، ولم تنم القرية تلك الليلة فاختفى حناوى حتى موعد محاكمته.. لكن التهمة لم تثبت عليه.
ومن الشخصيات الطريفة فى الرواية جدة قط التى تشبه الكثير من الجدات، لكن حسن عبدالموجود ميزها على الصحفة 76 بأنها “تهرب إلى الداخل لمشاهدة التليفزيون، تعتقد أن من يموت فى مسلسل يموت فى الواقع، وكانت تحزن جداً حينما يموت بطل محبب إليها، وأحياناً تندهش لظهوره فى عمل آخر لاحقاً: مش مات فى التمثيلية بتاعة عم نول؟ تسأل باندهاش شديد، حاولنا اقناعها بخطأ اعتقادها أكثر من مرة ــ يمكن القول إن ذلك احتاج لمدة تجاوزت السنوات ــ وحينما فهمت بدأت تتعامل مع كل ما يعرف فى التليفزيون على أنه تمثيل فى تمثيل، حينما ترى الحزن فى وجه أحدنا على هزيمة لـالأهلى تتساءل: زعلان ليه.. مش تمثيل؟”.
أما شخصية الشيخ محسن فهمى شخصية لطالما وردت فى الكثير من الأعمال الروائية، الشيخ الذى يتعاطى السحر والشعوذة ليواقع النساء بحجة اعطائهن الدواء الناجع لحل مشاكلهن والتى تدور فى معظمها حول الزوج أو العشيق.
>>>
وعلى الرغم من ازدواج شخصية قط فإنه على جانب آخر يعيش إنسانيته، فيحب نورا اخت إييا الذى يكرهه، لكن هذا الحب لا يكتمل، فقد اختطفها حناوى واغرقها فى الساقية، لاذ بعدها قط بشخصيته الأخري.. وبمرور الوقت وحلوله فى أجساد القطط صار يدرك مشاعر تلك الحيوانات وعاداتها، وصار يفضل التعامل مع الذكور لأنهم أكثر مقدرة باحتياجاتها من الإناث كما أنه تأكد فى مراحل لاحقة أن القطط لها القدرة على التخاطر العقلي.. هو إذ ينغمس فى عالمه الداخلى المشحون بالغرائب والقسوة يتوصل إلى حسم تردده ويجد الإجابات عن تساؤلاته فيخلص إلى التمنى بأن يحل فى جسد قط يعتز بنفسه ويتعامل بكبرياء.
“ولا يهرب أمام تلويحات الصبيان بالطوب، وأحياناً بالقبضات الفارغة، ويأكل فقط داخل المنزل الذى يحيا به، خروجه إلى الشارع يكون للتأمل وبحثاً عن حياة خالية من المشاهد الواحدة.. وحين يجد ضالته فى قط الشيخ طه، يكون هذا قد مات إذ تدهسه عربة المطافئ التى جاءت لإخماد حريق.. وتنتهى الرواية بعبارة “كان يسير أمام العجلات بالكبرياء ذاته حتى سوته العجلة القاسية بالأرض”.
>>>
يغرف حسن عبدالموجود من الموروث الشعبى المصري، لكنه لا يغرق العمل به، إذ أن أبطاله من الناس البسطاء ذوى الشخصيات الواضحة بمحبته وبغضها وجهلها ومعاركها الصغيرة وطيبة قلوبها، شخصيات نكاد نراها ونلمسها من شدة حميميتها وقربها من الواقع.. وهى الخامة الأساس التى رسم عليها المؤلف روايته الأولى بأسلوب بسيط مقنع.. وبعيد عن الثرثرة والأطناب.. وبمائة وست صفحات من الحجم المتوسط.