مؤمن سمير
(1)
يُمثل الكاتب الشاب محمد إسماعيل الأقطش ،والذي فقدته الحياة الثقافية عام 2017- صفحةً مائزة في كتاب الأدب البورسعيدي المعاصر وذلك لسماتٍ في كتابته وفي شخصه كناشط ثقافي ومجتمعي ، جعلت من المرور غير المكترث على تجربته أمراً غير مفترض ولا متصور ، حيث تَمَثَّل رغم سنه الصغير نسبياً تاريخ مدينته الاستثنائية وتشرَّب روحها الثرية المتعددة الطبقات والمتخمة بالأسرار وبالحكايات التي لا ينفد أريجها ، كذلك لم ينفصل عن التطورات المتلاحقة الحادثة في الثقافة : إبداعاً ونقداً وفكراً ،فأنتج أدباً متميزاً ،رغم قلة المنشور منه ،ناضجاً ومعاصراً ومعبراً عن روح مدينته بنفس درجة تعبيره عن أزمات الإنسان المعاصر ودواخله وظاهره والمسكوت عنه ، سواءً بسواء…
وقد مثَّلَ المكان متكأً وبعداً رمزياً يختصر الكاتب به الحياة كلها بكل تجلياتها وتفريعاتها الممكنة والمتخيلة وظهر ذلك منذ مجموعته الأولى “نورس وحيد بجناحَيْن من ورق” ،هيئة قصور الثقافة ،سلسلة إبداعات2005 – والتي يظهر البحر فيها كمكان يتأرجح بطبيعته بين الثبات المكتنز بالحركة والحركة الحبُلى بحلم الهدوء و يتماهى بالتالي مع حيوات شخصياته التي تتقلب بها الحياة وتتأسطر كذلك وسط تفاصيلها الصغيرة …البحر ذلك اللغز واليقين ، التيه والمستقر، المحبة والقتل : في الآن ذاته.
كما تُمِثِّل المدينة في المجموعة السابقة المكان المخاتل، المتسع دوماً بأحلام وتطلعات شخوصه، والرمز اللانهائي الحاضن للأجيال المتعاقبة ،الثابت كتفاصيل جغرافية ولو إلى حين، والمتقلب كزمن وأيام ووشم على الأرواح ،إنها الفضاء الذي يقترب ويبتعد ويعلو ويهبط تبعاً لأحلام وتطلعات وأمنيات البشر الذين تتوزع لحظاتهم بين حواريها وشوارعها وبيوتها ، وحمولات هذه الأوعية من الذكريات والصور والأفراح والأحزان واللحظات الحميمة أو القاسية التي تجرح الروح ، الروح التي تفر من مرفأ إلى آخر كل دورة زمن ، علها تجد العزاء والسكينة ثم لا تلبث وأن تعود لتتلمس البهاء والنور القديم…
مَثَّل المكان إذن- سواء كان في تجليه كمدينة أو كانطلاقه من وإلى البحر- بُعْداً هاماً ومتكأً ومنطلقاً للحَكيْ ومفتاحاً للسرد وفضاءً يُظِلُّ الشخوص ويضفي عليها سماءها وأرضها ويهزها أيضاً برياحه وعواصفه ويغرقها بسيوله وطوفانه المختبئ تحت الأحجار أو بين الأمواج ،يحفظ ذكرها أو يجعل النسيان يغمرها ويُسكن آخرين مكان الظلال الأولى ، بلا رحمة …
المكان تميمة الإبداع عند محمد الأقطش لأنهُ القيمة الفنية التي لا فكاك عنها في وضعية ثقافية كوضعية مبدعنا المغموس حتى نهايات وعيه في مكان خاص لا يشبه إلا نفسه ،سواءً تاريخياً أو جغرافياً،بورسعيد ذات الوجوه التي لانهاية لبريقها وغواياتها.
وفي كتابه الثاني”بورسعيد..بيروت:أبجدية البحر والحرب” مركز الحضارة العربية2011 ، يتمثل فلسفة المكان بأبعادٍ أكثر اتساعاً وتحليقاً ، إنه البطل هنا بلا مواربة رغم أن الكتاب كله يتلمس الروح الإنسانية وتفاصيلها الصغيرة وذكرياتها وحنينها الممض، ورغم أنه قد يصح أن نقول إن البحر والحرب لهما من التأثير في روح الإنسان ، ما قد يتشابه في كل مكان أو شاطئ أو ساحل وقد يصنع من البشر أخوة وظلالاً لأصل واحد- إلا أن الأقطش نجح في خلق مكانه الخاص الذي هو مكان الإنسان دائماً لكنه يتبدى ويُنتَج من خلال أحداق هذا الكاتب وهذه التجربة وإشعاعاتها بالذات . إن الحياة ، المرتبطة بهاتيْن القيمتين، البحر والحرب ، لم تتخلق إلا فيهما وبمناسبتهما بالذات سواء انطلق نفيرها أو انطفأت نبضاتها في بورسعيد أو في بيروت، وسواء كان المكان المقصود بهذه الشاعرية مثل البحر ، أو مكاناً وجودياً ونفسياً يتعالق فيه الخراب والحطام والقتل والدمار مع تحولات النفوس والأرواح ، كالحرب ونيرانها التي تَسِمْ المكان ببعد يكاد يكون من فرط واقعيته، ميتافيزيقياً…
(2)
* المكان كتاريخ غير مدون لكنه حي:
اندثرت المعالم الأحدث في منطقة”البسطة” في لبنان لكن المعالم العتيقة وأرواحها بقيت وصمدت أمام طوفان الزمن ودراما الأحداث،فضاعت المقاهي واختفت محطة القطار لكن وجوه الباعة الجائلين وذكريات بطولات ” القبضايات” وأدعية الذكر الصوفي المنطلقة في الفضاء ،عاشت في النفوس لتحكي وتختلط مع مواجهات القوات الأجنبية المتعددة الأشكال،حيث تُجدد النفوس قدرتها على المقاومة وتشحذ دائماً طاقاتها القادرة على مشاغبة الحياة.
وهي نفس المقاومة المستمرة على الدوام ،المرتبطة بحفر قناة السويس، كحدث يحفر في الوعي مثلما يحفر في التاريخ والجغرافيا ، هذه المقاومة أو الإرادة التي تأخذ أشكالاً جديدة وسيَّالة تتشكل بتشكل صعوبات الحياة، حيث يتعايش سكان بورسعيد مع أثر حفر القناة الإيجابي على حياتهم ،القناة التي تشبه الرمز أو الأيقونة بالنسبة للأبصار والبصائر،لكنهم لا ينسون أبداً أرواح المائة وعشرين ألف مصري الذين ماتوا وهم يعملون ، لتبقى المقاومة جنيناً مستعداً للحياة على الدوام في رحم المدينة منذ نشأتها وتظل قاعدة تمثال ديليسبس الفارغة ، كأنها حفر في التاريخ الحي داخل النفوس ،يصحو أثره كلما تبدلت الجلود وظهرت أصابع الكفاح واستمرت الحياة .
الساحة الكبيرة في قلب بيروت دليل حي ينبض كل صباح ويحكي قصة الأمير “فخر الدين” الذي بني قصره وسط هذه الساحة أو ذلك البرج الذي أقيم فوقها لحماية المدينة لكنه تهدم بالمدفع الروسي ثم عاد للحياة مرة أخرى عندما دخل” إبراهيم باشا” المدينة وأعاد بناءه ثم تعدو الأيام بنا إلى الحرب العالمية الأولى وسقوط الشهداء في قلب وجسد نفس الساحة حتى كان العام2005 الذي استشهد فيه “رفيق الحريري” ودفن فيها.وهكذا تتساوق نبضات قلب بيروت مع هذه الساحة الفريدة وتبقى التحولات التي حلت باسمها :من ساحة المدفع إلى ساحة البرج إلى ساحة الشهداء وانتهاء بساحة الحرية – شاهدة وممثلة وحاكية للتاريخ وحافظة لأنفاس البشر.
*المكان كهوية وكحافظ للملامح :
يجلس البطل وحيداً في شرفة منزله يطل على ميدان “جمال عبد الناصر” وكورنيش “عين المريسة” في بيروت ويقيس مسافة الصواريخ التي أطلقها حين كان قائداً للقوات المشتركة “اللبنانية السورية الفلسطينية ” ويحكي لنفسه كيف أن نفس الصواريخ قتلت زوجته هو في النهاية وأنه بعدها لم يجد إلا البحر ليتحدث ويتنهد على صدره،البحر الوفي والشاهد والمؤتمن على الأسرار.حفظ الميدان هويته كبطل ومقاتل وحفظ البحر ذكرى زوجته التي صعدت تاركة له نضاله وابتسامة الرضا الحزينة.
أما السيدة “نجاح” التي اختارت أن تبقى في شقتها القديمة في بيروت بعد أن رحل الجميع من الأهل فإن المكان قد صنع فلسفتها وقدرتها على أن ترفض دائماً إلحاح ابنها كي تلحق به إلى الخارج ، هي تعتقد وتؤمن إيماناً راسخاً بأن الحرب التي خربت ودمرت تحتاج إلى المقاومة طول الوقت ،المقاومة في عرفها تعني التمسك بوجودها الذي يعني البقاء وسط الذكريات، البقاء الذي يحفظ الملامح وتغضنات الجسد ولا يتركهما يتفلتان(خارج) الذاكرة، المكان هو الحضن الذي إذا تماهى معنا و تماهيْنا معه عدنا وحدة واحدة وروحاً لا تنفصم.
وهكذا عاد اليوناني “نيكولا” إلى بورسعيد باحثاً عن ملامحه التي نُقشت في السنوات التي قضاها هنا بين أنفاس بورسعيد ووهجها الدائم ،طفولته التي تشكلت هنا ظلت فردوساً مفقوداً وهو بعيد وعندما عاد وجد هيكل المدينة لم يتغير،بحرها وشوارعها ،لكن البشر غابوا وبقيت الحكايات الصغيرة لتعيد لملمة الروائح التي اندثرت وتعيد تشكيل ملامح البشر الذين يخصونه ويشبهون أيامه، ليعود هو الآخر ويتشكل من جديد.
*المكان كمحفز للروح وباعث على الحياة:
البحر،كلمة السر القديمة المتجددة ، ذلك الكيان والكائن والكينونة ،الذي ارتبط بالحياة وصنع الذكريات وحفظ للروح بهجتها ورعبها المقيم ،صنع صورة متوهجة لنضال الإنسان وصراعه مع وحوشها المتشكلين في صور لا نهاية لها مثلما نَحَتَ مظاهر حبه وافتتانه بالحياة ، ونفخ في روح الموت لينهض الناس من جديد وهم يفتحون أذرعتهم للشقاء وكذا للعناق.
“صابيرا” هي المرأة الوحيدة التي تعمل بالصيد في بيروت ،اصطَفَت البحر كمرفأ وكمحل للرزق بعد أن غيَّبَ البحر زوجها بعيداً عن العيون،كان البحر هو التحدي الدائم والانتقام الساخن لكن كلما مَرَّ الوقت تزداد يقيناً بأن البحر احتفظ بزوجها لنفسه فقط، في شكلٍ من أشكال الحب الذي قد لا يستوعبه الجميع ،وهكذا أورثت ابنها المهنة ليكمل العناد مع البحر باعتبار البحر عندها هو المكافئ والممثل للحياة ،فكلما قاومت وانتصرت يبتسم لها الموج ثم تنحني لها الأيام.
التلاميذ الصغار صاروا كباراً اليوم ولكن هل نست أكفهم خشونة الحبال أثناء وقوفهم مع الصيادين وهم يسحبون الشباك من بحر بورسعيد العتيد ؟ هل يمكن أن تمحو الريح آثار أقدامهم الصغيرة على رمال الشاطئ وهل ستغيب رائحة السمك عن أنوفهم طول الدهر؟ صنع البحر من الصغار كباراً،عمَّدهم بماء الرجولة وهز رأسه قائلا الآن أترككم في بحر الحياة الهائج المراوغ ، مطمئناً وراضياً.
(3)
يمثل المكان عند محمد الأقطش إذن تميمة الإبداع وحاضنته.إن الإبداع عند هذا الكاتب ليس في أنه يكتب (عن المكان) بشكل وصفي سياحي يقصد ويطمح للتعبير عن الشكل الخارجي لموتيفات المكان ،لكنه يكتب( بالمكان) ، ينقل روح الزمن والتاريخ وحيوات الشخوص الموَّارة عبر المكان ودقائقه ، موضحاً كيف تختلف رؤاهم للحياة وتوجهاتهم وبالتالي مصائرهم بتأثير ثبات المكان أو تحولاته ، يحكي تفاصيلهم المنقوشة على الجدران ويقارن بينها ليظهر المكان كمسرح للحدث بنفس قدر ظهوره كفاعل أصلي أو أصيل . فالمكان إذن ليس موضوع الكتابة وإطارها وخريطتها وحسب وإنما هو محفزها وخالق شكلها ومحدد محتواها ومؤطر زمنها ومُشكِّل نقاط الابتداء ونقاط النظر ومنطلقات التفاعل والحكي.
وتختلف بالطبع حساسية الإبداع باختلاف (طبيعة) المكان ، فالمكان غير الآهل بعيدٌ بمراحل حضارية وثقافية ، عن المكان الحضري ، والمدينة الكبيرة غير المدينة الصغيرة ، والمقهى غير ساحل البحر، وتتباين طبيعة العلاقات بين سكان الشارع مثلاً عنها في الحارة والزقاق الخ وبالأحرى تختلف كلياً أبعاد وطبقات المكان الواقعي عن المكان النفسي وكذا عن المكان الأسطوري أو المتخيل.
لقد ظهرت جماليات الكتابة وتحققت في إبداع محمد الأقطش بتفهمه وتمثله لأبعاد المكان وتجلياته على أيٍ من الأصعدة ،وهو ما حَفَّز تلك الكتابة ورسم طريقها وتساوق مع ألعابها ونزقها الحميد ووشمها بسمت خاص ، متسع وعميق ويجمع بين الزمان والمكان والشخوص في لعبةٍ واحدة ، قد تكافئ الحياة ذاتها.