عن الأصداف والحبّ

إسراء عبد الرازق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إسراء عبد الرازق

كان صوت همسه يشبه صوت الأصداف التي تمشي فوقها، لتنزلق في فيضان الرمل وتصنع زخمًا من الأصوات. لها لمعان العقيق المثير للدوار كعيون الجرحى، حينما فركتها، ارتجفت أطراف أصابعها، وفكرت: كيف تبدو الحياة بدون صوته؟

في السادسة صباحًا، بعد نوم طويل من ليلة رغبت بها أن تكون جناحين ملونين لطائر مهاجر، ناداها هامسًا: “سارة، سارة يلا أصحي ..”
***
كان البحر بعيدًا، أبعد من أي وقت مضى، وهذا البعد حملها الى البكاء. حتى هجوم الأمواج وتدافعها نحوها تدفق الى داخلها، كأن العالم موجه اليّها ضربة حينما تجفل للحظة يصيبها.
***
كان يجمِّع لها الأصداف من البحر كالصيّاد الماهر، يخرج اليها بعينين لوزينين كحبات اللؤلؤ، وكفوف يديه متشابكتين وعميقتين كنفق مملوء بالكنوز والأسرار، كانت تنظر الى الداخل، داخل كفيه، وداخل نظرته، ثم تستمر في النظر بتجمد غريب، يصمت العالم داخلها، بينما يرتفع صوت ضربات قلبها، وصوت البحر

“سارة جمعتلك الأصداف اللي بتحبيها، حعملك منها عقد جميل أول مانروّح”
“لما أكبر حتعملي عقد أكبر، وتجيب لي مشمش وتين، هي عنيا زي عنيك يا بابا؟ عينيك عاملة زي الشمس، لونها زي الخوخ”.
***
يتحلل الزمن في صوّر الماء، والصوت الوحيد الذي سمعته هو الصمت، هل عينك مثل عيني يا بابا؟ سألته وكان شروده يثير في داخلها حزنا لا تفهمه. هل كان زمنها غير زمنه؟ وهل كان تقاطع الأزمنة بينهما ينطوي على جرح؟ ففي داخل عينها كان زمن الماء والرمل والفنارة حبيسًا في بلورة الكتمان
***

يمد لها يده كأنها حبل سري.. هل للآباء حبل سريّ مخفي؟ وهل ينزع ارتباطنا بهم تعويضًا عن قطع حبلنا السري بامهاتنا؟.. كانت تمد إليه يدها، وتضحك، فيحملها مثلما يفعل أي أب مغرم بطفتله ويدفعها لأعلى ثم يلتقطها. لم تكن – ولو مرة واحدة – خائفة من السقوط، ما جعل صداقتهما تزداد عمقًا أن لهما نفس الخوف، وانهما لا يمدان أيدييهما الى الغرباء.
***
كان شاعرًا، يكتب قصصًا عن شخصيات ساحرة، يسخر من كل شيء، وما يكتبه به لمحه جمالية، جالبة للدموع، ما جعلهما أصدقاء هو أن لهما نفس الصوت، لكن صوته كان أكثر دفئًا، أعتقد أن صوته بشع، لأن الناس لم يسمعوه بوضوح، بعد أن أخبره الطبيب أن أحبالة الصوتية ضعيفة وتحتاج الى جراحة، وكالعادة لم يبالِ، أصبحت تلك الحشرجة التي تمتد في مجال صوته دائمًا تجبره على تكرار ما يقوله، كان يضمر شعورًا بالخزي، ربمّا يتجاوز عدم حبه لصوته إلى عدم حبه لذاته، في مرة حكى لها أنه كان له صوت مسموع كباقي البشر في أوقات أخرى من حياته، وأنه يجهل سر خفوت صوته إلى حد الضياع، مَن سرق صوتنا يا بابا؟… بالنسبة لها كانت تلك البحة والتهدج في تذكرها بصوت البحر، كانت تراه بحرًا جريحًا، لطالما رغبت أن تلمس حنجرته، فتعوّضه أو تنتزع منها أنياب الماضي الأليم. بدت طرقهما دومًا ذات صلة، حتى لو كانت بأحبال مشروخة. كانت طفلته المفضلة، وأكثر من ذلك، حليفته ضد القهر، حاوية أقسى أسراره، بيد صغيرة تمسد على كتفه، ووعود تسيل تحت ضوء القمر
***
كان شاعرًا، ويكتب قصصا لشخصيات لا تشبهها، هل عجز عن كتابة شخصية متخيلة تناسب أحلامها أم انه فقد قدرته على الكتابة؟ “بابا، اكتبني” .. كانت أمنيتها أن يكتبها، أن يتخيل لها حياة، ويرسمها، حياة حتى لو كانت مجردة من الغموض والعمق، حتى لو كانت حياة وردة في غرفة من زجاج، لكنه في كل مرّة كان يفضل ترك الصفحة فارغة.
***
تتسلل يدها عبر الظلام، الغرفة فارغة، كما لو أنها خارجها، الضوء الأحمر الباهت يرسم تموجات على الحائط، تبدو كالبحر الذي ينكمش عن الحياة، الأصداف تتكسر، يتدفق الزجاج على وجهها، تنزف، تتسلل عينها عبر الظلام، وترى الغرفة الضيقة، تسير نحوها، وتخرج منها، ويتناوبان في الهروب من بعضهما،

***
تنظر من داخل شباك غرفتها المطل على البحر، يتنظرها الجميع في الخارج، لكنها تتذكر بقايا أصدافها على الشاطئ… ولا تخرج.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون