ناصر كمال بخيت
وقفت المُحاضِرة الأمريكية في قاعة الدرس، تُعدّ نفسها ووسائل العرض قبل أن تُلقي على مسامع بعض الباحثين المصريين محاضرتها في جامعة “تيمبل” بفيلادلفيا، حيث حضروا للتدريب في منحة دراسية. لم تكد تبدأ حديثها، حتى رفع أحدهم يده وسألها بعفوية: “ما هو عنوانك؟” كان يقصد، بالطبع، عنوان الدرس. لكنه لم يكن يعلم أن كلمة “عنوان” لا تُحمل في اللغة الإنجليزية المعنى ذاته كما هو في اللغة العربية، وأن الكلمة المستخدمة للسؤال عن عنوان درس أو كتاب أو ما شابه، تختلف تمامًا عن الكلمة المستخدمة للسؤال عن عنوان السكن. ولكن، ولسوء حظه، استخدم اللفظ الذي يُفهم منه أنه يسأل عن عنوانها الشخصي. ولهذا، بدا التوتر والقلق الشديد يظهران على وجه المعلمة؛ إذ شعرت وكأن في سؤاله تهديدًا مباشرًا لها، فاستدعت الأمن فورًا، وبعد تحقيق قصير، اتّضح أن الأمر لا يعدو كونه سوء فهم، نابعًا من جهلٍ بالفروق اللغوية والثقافية بين البلدين.
هكذا روى لنا الأكاديمي المصري الذي كان يُعدّنا للسفر إلى الجامعة نفسها، ضمن نفس المنحة، تلك القصة ليحذرنا من الوقوع في الأخطاء ذاتها، ومؤكدًا أن الكلمة، إن لم توضع في موضعها، قد تُصبح عبئًا على صاحبها وتسوقه إلى مواقف ذات عواقب وخيمة. أما إذا استُخدمت بشكل صحيح، فقد تصبح جسرًا للتواصل، ومنفذًا لفهم الآخر…. لا أدري لماذا ذكّرتني تلك القصة وما أورده بعد ذلك بما حدث لي منذ زمن بعيد وتحديدا في بداية التسعينيات، عندما قابلني صديقي الأديب يومًا ليخبرني أن هناك مسابقة للقصة، ويجب أن أقدّم فيها. أمسكتُ بالجريدة لأقرأ الإعلان الخاص بها:
“تُعلن مؤسسة الأدباء المتحدين عن مسابقة للقصة القصيرة، وسوف يحصل الفائزون بالمراكز الثلاثة الأولى على جوائز قيمة…”
أكملت قراءة الإعلان، الذي شمل الشروط وطريقة التقديم، وقررت في الحال أن أشارك بها. أتذكر أنني في ذلك اليوم كتبت قصة خصيصًا للمسابقة، وبعد أن أنهيتها ظللتُ أيّامًا أفكر في عنوان مناسب لها. جرّبت عناوين كثيرة، ثم آثرت أن أختار عنوانًا غامضًا يثير فضول لجنة التحكيم، سميتها “ثلاثية المغيب”.
أرسلتُ القصة قبل الموعد المحدد في الإعلان، وبعد أيام جاءني خطاب من إدارة المسابقة. فضضتُه بلهفة، وفي داخلي فرح غامر، وبدأت أقرأ الخبر المنتظر.
لقد فازت قصتي بالمركز الأول! وكان عليّ أن أسافر من مدينتي في الجنوب إلى العاصمة لتسلُّم الجائزة. لكنني لم أكن أملك ثمن تذكرة القطار، ولا ما يكفيني للمعيشة في العاصمة لبضعة أيام، فاضطررتُ إلى أن أستدين مائة جنيه من صديقي، على أن أردها له بعد حصولي على الجائزة، التي افترضتُ – من تفسيري الشخصي لكلمة “قيمة” – أنها، لا شك، ستكون مبلغًا محترمًا يتجاوز المائة. تخيلتُ مقدار الاحتفاء الذي سينتظرني من تلك المؤسسة الثقافية؛ ربما حجزوا لي غرفة في فندق أنيق، وربما خصصوا لي استقبالًا رسميًا، أو التُقطت لي صور وأنا أعتلي منصة التكريم وسط تصفيق الحاضرين.
وصلتُ إلى محطة رمسيس، يحدوني الأمل، ويغمرني الفخر بما وصلت إليه. كان عنوان المؤسسة المنظمة، كما هو مدوّن في الخطاب، يقع في “المعادي”، فاستقللتُ سيارة أجرة مباشرة إلى هناك. تركني السائق بعد أن أخبرني بأنني قد وصلت.
هبطتُ من السيارة فوجدتُ شارعًا رئيسيًا، بحثتُ داخله عن الشارع الفرعي المدوّن في عنوان خطاب المؤسسة. سألتُ كثيرين، فوجدتُ نفسي أتنقّل من شارع إلى شارع، ثم إلى حارة صغيرة متواضعة. دلفتُ داخلها، وعلى بعد خطوات قليلة، شاهدتُ لافتة قديمة باسم المؤسسة معلّقة في الدور الأخير لمبنى يتوسّطه صدعٌ بارز في المنتصف، مما يدل على أنه ربما يكون آيلًا للسقوط. صعدتُ الدرج بحذر، فوجدتُ شقّة وحيدة هناك، مغلقة بقفل غطّاه الصدأ. هبطتُ مجددًا، وعندما سألتُ أحد المارّة، قال لي:
“إنها شقّة مهجورة منذ فترة طويلة.”
أصابتني خيبة أمل شديدة، وتذكّرت أن العنوان الذي أرسلتُ إليه القصة لم يكن عنوانًا كاملاً، بل مجرد رقم لصندوق بريد. عدتُ إلى ميدان رمسيس مرة أخرى، وقضيتُ ليلتي في أحد الفنادق الرخيصة هناك.
في اليوم التالي، سمعتهم يعلنون اسمي، واسم قصتي الفائزة، خلال الحفل الذي أُقيم في قاعة صغيرة، بأحد الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير. اقتربتُ من المنصّة وسط تصفيق الحاضرين لأستلم الجائزة، فرحّب بي كاتب كبير، كنت أقرأ اسمه كثيرًا في الصحف والمجلات الثقافية. سلّمني شهادة تقدير، ومجموعة من الكتب، يتناول معظمها سيرًا ذاتية ومقالات صحفية مُجمّعة؛ لم تكن من بينها رواية واحدة، أو مجموعة قصصية من تلك التي أعشق قراءتها. عدتُ إلى مقعدي في القاعة، وأنا أفكر في المائة جنيه… وكيف سأقوم بسداد هذا الدَّين.
اعتدتُ المعيشة في فيلادلفيا، المدينة الأمريكية التاريخية، وزرتُ العديد من معالمها المميزة، مثل قاعة الاستقلال وجرس الحرية وغيرها. أما المكان المفضل لديّ، فهو الميدان الذي يتوسط المدينة، حيث كُتبت كلمة “لاف” بالإنجليزية بحروف مجسمة، وبجوارها نافورة ساحرة تتلألأ فيها المياه بفعل الأضواء الباهرة للمدينة. كان يذكّرني بميادين القاهرة العامرة، حيث يكتظ المكان بالناس والحياة. ولكن، رغم ذلك، وبعد شهور عديدة، بدأ الملل يتسرّب إلى نفسي، فكان لا بدّ من تغيير نمط الحياة. فكّرتُ في السفر إلى مدينة أخرى خلال الإجازة الأسبوعية، وعندها تذكّرتُ المقولة التي تقول: “إذا كنتَ في عصر الرومان، فلا بدّ أن تزور روما”؛ فقلت لنفسي: إذا كنتَ في أمريكا، فلا بدّ من زيارة نيويورك، حيث يمكنني التجوّل في ميدان “تايمز سكوير” لرؤية ناطحات السحاب العملاقة، والمركز الذي يتحكم في اقتصاد العالم وسياسته.
حجزتُ تذكرة ذهاب وعودة في نفس اليوم، لحافلة تابعة لشركة صينية، كونها الأوفر بين جميع الشركات. فقطعتُ المسافة في ساعتين تقريبًا، حيث وصلنا إلى “تشاينا تاون” أو الشارع الصيني في نيويورك، حوالي الساعة العاشرة صباحًا. بحثتُ عن محطة المترو المتجهة نحو التايمز سكوير، وعندما وجدتها قرأتُ اللافتة التي توضّح اسم المحطة التي سأبدأ منها، حتى أعود إليها قبل السادسة مساءً، وهو موعد العودة… كُتب عليها “برودواي”، وبجانبها بعض الأعداد والرموز التي لم أُعرها اهتمامًا.
نزلتُ درجات السلم، فوجدتُ المكان في الأسفل معتمًا قليلًا، إلا من إضاءة خافتة، مما ذكّرني بأفلام الرعب الأمريكية التي طالما شاهدتها، وخاصة حين يُقتل البطل في محطة المترو. نظرتُ حولي لأجد شباك التذاكر، ولكنّي لم أجده. فجأة، قفز أمامي شاب أسود، مما جعلني أرتبك قليلًا. سألني عن وجهتي، وعندما أبلغتُه بها، أخرج لي تذكرة عبور تحتوي على دولارين، وهو يقول: “تلك كافية لرحلتك.” اشتريتها منه، وتوجهتُ صوب مدخل القطار.
وصلتُ إلى الميدان، والذي كان مكتظًّا بالسائحين، ويضج بالأجواء الاحتفالية. قابلني من يرتدي زي ميكي ماوس الشهير، وصافحني بحرارة، وكأنه يعلم بأنها أول زيارة لي. رحتُ أشاهد بسعادة بعض العروض الموسيقية الراقصة التي تُقدَّم على جانبي الطريق، ولكن أكثر ما أبهرني هو الشاشات الضخمة التي تصوّر كل شيء في الميدان، حتى إنني وجدتُ صورتي فيها وأنا واقف أتأملها، وهي تتغير من صورة لأخرى.
ظللتُ أتجول هكذا حتى الساعة الرابعة مساءً، فقررتُ العودة. ركبتُ المترو، وثبّتُّ عيني على عناوين المحطات المختلفة، حتى وصلتُ إلى برودواي، فنزلتُ من المترو وخرجتُ إلى الطريق، فإذا بي أجد نفسي وكأنني انتقلتُ إلى الهند! فالجميع يرتدي الأزياء الهندية، ويمكنك أن تميّز أيضًا لغتهم الهندية، كما أن رائحة التوابل النفاذة تملأ المكان. لا بد أن هناك خطأً ما، فهذا هو الشارع الهندي، أو ما يُطلق عليه “إنديان تاون”، وليس الشارع الصيني! أدركتُ سريعًا أن الرموز والأرقام التي تجاهلتها لها معنى، فهي التي تُحدّد العنوان بدقة.
سألتُ عن محطتي حتى وصلتُ. ركبتُ الحافلة في الميعاد، وبقيتُ طوال الطريق أفكر في قريتي الصغيرة في جنوب مصر، وكيف أن شوارعها لا تحمل أسماء، ولكنك لا يمكن أن تضلّ طريقك فيها أبدًا. يكفي أن تذكر اسم الشخص الذي تودّ الذهاب إليه، لتجد من يأخذك من يدك إلى داره. تذكّرتُ عم “رضوان”، وكيف أنه أراد أن يميّز داره، فكتب على مدخله، أعلى الباب الأمامي، وبخط النسخ العريض: “بيت الأصول”. فاشتهر بهذا الاسم، حتى إن عنوانه البريدي كان يُدوَّن فيه اسم المحافظة، يليه المركز، ثم القرية، وبعدها “بيت الأصول” بدلًا من اسمه، فلا يجد ساعي البريد مشكلة في الوصول إليه. لكن “رضوان” مات، فاختلف أبناؤه على من يرث المنزل، ففضّلوا أن يبيعوه لشخص غريب، والذي أزال الاسم الذي استمرّ سنينَ في نفس المكان، وبالتالي تم تغيير العنوان البريدي، وعاد يُذكر فيه اسم صاحبه.
أنهيتُ دراستي وعدتُ إلى الوطن، تنازعني الحيرة: أأبقى في قريتي حيث الجذور، أم أشدّ الرحال إلى القاهرة، حيث لا بدّ أن أبدأ فيها رحلة البحث عن عنوانٍ جديد؟












