طائر تبدو عليه ملامح القداسة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 14
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طه عبد المنعم

قد يكون حلما أو قد تكون قصة عن الكتابة أو قصة عن المشاعر أو مزيجا من هذا كله، هذا ما لم أحسمه أو لعلى لن أحسمه أبدا.

 

فأول ما مر على ذهن نجاة أن الحب لا يستطيع النمو فى هذه المدينة القاسية. لم تعد تعتقد أنها تستطيع غمر العالم بالحب بكتابتها.خاطر أشعرها بالارتياح بدلا من حزن دفين يائس، ارتياح لفقدها الأمل فى محاولات تجهدروحها وتستنفذ طاقتها. السقوط من أعلى خلص نجاة من غيماتتكبلها بالعمى فى مواجهه الحقيقة. شىء مدهش حقا، لم يكن سقوطها من علىكوبرى فى البحر غير حادثة غير مقصودة، والأمتار التى تفصلها عن سطحالبحر كفيلة بتألق ذهنها، لتهديها للخاطر الذى شملها بارتياح فىرحلة غوصها الهادئ الذى ظنوه انتحارا.

طرطشات الماءالمالحة لم تكن مزعجة بل بدت ملونة ومبهجة. شدها قوة السقوط لأسفل سطحالماء،وبرد فعل لا إرادى دفع جسدها نفسه إلى أعلى. شهقت فور تحرر فمها منملوحة البحر، لكن وزن الجسد لم يمهل رئتها أى فرصة لملأ نفسه بالهواء.أحستبشىء صلب مس أطراف قدمها. فى هذه اللحظة لن تهتم إذا كان إحساسا حقيقيا أمزائفا، المهم أن تشعر به قوة، قوة دفعتهاإلى أعلى لتلقى نظرة أخيرة على العالم.

فتحت عينى، السماء زرقاء، النور يغمر مرمى البحر. هناك طائر.يطير وحيدا مثلى. جناحاه يرفرفان حول غيمة تحجب قرص الشمس.أغمضت، ولكن الطائر لا يزال فى عينى. لحظات الموت والحياة، الإيمانوالكفر، الحب والكره..تحولت إلى معانٍ وتلاشت مثل ضوء باهت يخفت مع عبورى الطرف الآخر. فهمت سريعا أنها لحظة موتى منذ سقطت، فهمت أيضا أنه ليس هناك طريق آخر. كنت مفعمة بالآمال، فى هذه اللحظة فضلت التخلى عنها، لهذا لا يمكننى مقارنة نعومةالطائر وحنانه حين احتوانى بأى شىءآخر على هذهالأرض، عندما لفنى بهذا التوسع المدهشلم أهتم بشىء آخر، ظله الرمادى يكبر ويكبر، حتىأحاط بجسدى كله فدفست رأسى فى باطن الطائر، ونمت.

ظلت صورة هذا الطائرتشد انتباه نور فى كل مرة يدخل فيها مكتب البندارىالمتخم حتى السقف بأرففالكتب. أخبرنى البندارى ذات مرة أن إحدى الكاتبات التى نشر لها فنانة تشكيليةأهدته هذه اللوحة. اللوحة صورة فتوغرافية لطائر يطير وحيدا على صفحة المياه المنبسطة. شدنى البندارى إلى إحدى غرف الشقةالتى يعتبرها مكتبا لدار النشر وأعطانى حقيبة جلدية صغيرة معباة بأوراق ودفاتر، ثم قال بسيمائهالساخر وهو ينفث بقايا دخان أزرق إنهيريدنى أن أراها فيما بعد: أطلع عليها،فلربما وجدت ما يصلح للنشر.

ما إن قال ذلك حتى استعاد دوره كناشر وهويسألنى عن أحوال الكتب والكتاب فى دور النشر الأخرى، وسمعته على مضض يتحدثكالعادة فى توافه الحياة وشؤون أخرى لا أهمية لها. عرفت حين خرجنا للصالةأن هذه الحقيبةتخص الصحفية الراحلة نجاة التى تحدث الوسط الأدبى عن موتها كثيرا منذ فترة وتوقف الحديث حين سرت إشاعة أنها كانت مريضة باكتئاب ثنائى القطب.قد يفسر هذا لماذا لم تنشر كتابا خاصا بدلا من النشر الصحفى فى الجرائد. أعرفنجاة من تسكعى الدائم فى وسط البلد وبين المثقفين. قابلتها عدة مراتمنهم سهرة فى بار فندقامتدتللفجر وأعربت لها، باقتضاب، عن إعجابىبحواراتها مع كبار الكتاب. كادت تتخصص فى هذا المجال، وإحساسى أنها اكتفت ببراعتها فى هذا المجال عن باقى المجالات الصحفية التى يمكن فيها أن تستهلك نفسها. فقد جربت العمل فى الصحافة ولم أفلح، واتجهت لأعمال النشر والتوزيع والكتب بصفة عامة.نجاة لم تجر حوارات صحفية بالمعنى الترويجى الدارج الذى يمارسه الصحفيون بل كانت أثمن بكثير. يومها ذكرت لها ملاحظات على حوار أو اثنين، ابتسمت، كانت باهرة الجمال، بلوزتها الصفراء مفتوحة الرقبة حتى الكتفين، ومنبت الثديين يتألق فى الليل مع الهواء المنعش، خفت أن تتحول كلمات إعجابى لغزل تفضحه عيونى. عدت سريعا لمائدتى على أمل لقاء آخر، فرتبت الصدفة لقاء مع حقيبتها الجلدية الصغيرة. فور وصولى البيت أحسست بثقل الحقيبة وتركتها عند باب غرفتى، ظللت أحوم حولها أياماً،لم أدُهش أنها لم تتحرك من على باب الغرفة، لم يكن تكاسلا،قدر ما كان خوفا، خوف يمنعنى، قبل كل شىء، من اكتشاف الآخر فى نجاة. ماذا لو كانت كل تلك الأوراق خواطر ساذجة أو يوميات تافهة أو حتى إرهاصات رواية وقصص غير مكتملة، هل سأظل أرى نجاة المثقفة القوية الجميلة؟هل يسعى أصدقاء نجاة لتقديمها فى كتاب ليختصروا بعضا من الحضور الخفيف الرشيق الدافئ الذى كان يتمتعون به فى صحبتها، وعندما لم يستطيعوا دفعوا بكل الأوراق للناشر.هذاالشخص من خلال المخطوطات والدفاتروالأوراق مرعب ومختلف عن صورة الكاتبالتى نراها بين دفتى كتاب منشور. ورقة صغيرة بزغت تدعونى لقراءتها دفعتنىلرغبة قوية لفتح الحقيبة..

سأصنع حبا لى داخل صداقتك

وسأمشى معك ملايين الطرق

وألملم كل ما أقابله من عزلة

وكل ما ارتكبته من ضعف

وأهديه لك فى صندوق تذكارى

وحتى لا تزعجك رومانسيتى المفضوحة

لن أقدمه لك عند الغروب

هزتنى الدعوة وشرعت فى العمل، تبدو مسوداتها نموذجا صارخا لمحولاتها المتوترة لصنع كتابة جيدة، هذا ليس معناه عدم روعة وجمال القصص التى تشى بها الأوراق، تملكتنى الحيرة، فرغم ذلك تحوى شخبطات وأسهما وعلامات وملاحظات تائهة وكلمات ناقصة ومتاهات وحواشى سائبة مكتظة بأشياء وهمية لشياطين وشموس ونجوم..

المسودات لأسباب عديدة مخيفة لبعض كتابها تثير فيهم الفزع إذا حاول أحدهم الاطلاع عليهم ربما لأنهم يعتبرونها جزءا من حياتهم الداخلية التى تضم أسرارهم وتجاربهم الخفية، فتراهم يخفون أشياء ويحورون فى حوادث، وينسبون حكاية لهم لشخصية أخرى بعيدة. هل من حقى أن أحول هذا لكتاب أنيق بورق مصقول وتنسيق محكم، بخطوط رشيقة وصفحات مرتبة ولوحة منتقاة بعناية لغلاف الكتاب. هل هذا من حقى دون تكليف الناشر لى باعتبارى صحفيا سابقا وناشطا ثقافيا. كل كلمة مكتوبة تستحق أن تقرأ، لماذا فشلت فى الإجابة، فسألت نفسى سؤالا آخر  دفعنى للتعرف على حياتها بدلا من صورتها الجميلة الملتصقة بعقلى، أيجدى هذا..

شىء أوقف نور جعله يعيد علاقته الغير مرتبة بكتابة نجاة. حلم منذ سنوات حلما ودونه فور استيقاظه رجع إليه أثناء قرأته لنجاة، صُدم وبلغ به التوتر حدا جعله يوقف عمله وحياته، يتراءى لنور فى الحلم امرأة قبيحة تزداد جمالا بقدر ما ينظر إليها وبفعل نظراته فقط تشرع المرأة بغوايته كما تفعل النداهات أو حوريات البحر أمام البحارة فتغترب وتقترب، لاسيما أنها تغنى مثلهن، ولكن سيدة أخرى تبدو عليها ملامح القداسة تسارع لإنقاذه وترفع المرأة الغواية وتشق الستائر عنها وتريه بطنها الحافل بالعفونة ويستيقظ نور. رسمت نجاة هذا الحلم لشخصية فى مخطوط رواية بالإضافة إلى أن الحلم نفسه يتخذ شكل قصة منفصلة وأخيرا عثر على ورقة دونت فيها الحلم بعفوية كما فعل بتفاصيل أكثر ونهاية مختلفة نوعا ما، فتقول: “عندما رأيت البطن العفن جريت ورأيت نفسى أنفصل كثيرا وكل أحد منى يجرى فى اتجاه مختلف وتنتابنى مشاعر مختلفة مع كل اتجاه واستيقظت”.

هل حلمنا نفس الحلم؟ ولكنى اكتفيت بتدوينه فقط بينما استخدمته هى فى كتابتها هل فسرت لغزه وعرفت من هى السيدة التى تبدو عليها ملامح القداسة وتسارع لإنقاذنا؟ هل تشعر عندما تقرأ شيئا لا يخصك أن قلمك هو الذى كتبه وخطك الذى رسمه، بل النقط والفواصل كما تريدها أنت..

“فى بعض الأحيان يحتاج العقل لاكتشاف الأشياء بنفسه دون الاعتماد على الحواس، لأن وعيه لا يثق بها.. ربما لهذا طريقة واحدة وهى الكتابة، الكتابة هى المرأة المقدسة التى تكشف كل شىء، حين نشرع فى الكتابة نطل على كل شىء، فنرى دون عيوننا، ونلمس دون أصابعنا، ونشم دون أنوفنا. الرغبة المحمومة فى الاكتشافات تدفعنا للكتابة والكتابة والكتابة.. المعرفة بهذه الطريقة تصور لنا أنفسنا كشخص آخر يقيم داخلنا غنها رغبة عارمة للقفز على الحواجز واستيعاب العالم.. الكتابة تقضى على البطن العفن للواقع. الأدب غير الواقع. بالورقة والقلم أن تعيش بهم رغباتك.. أما الواقع فى هذه المدينة القاسية تلتهم حيواتنا وتتضخم لتزداد قسوة، حيواتنا التى نحافظ عليها فى إبداعنا بعدما تعرفنا عليها تتآكل فى هذا الواقع إذا لم ننجو منه، كنت لأمارس الأدب فى هذه الأوراق لأنى أعتقد بقدرته فى منع تحول الناس لنباتات أو حيوانات تولد وتعيش وتموت بلا معنى”..

هزتنى هذه الفقرة التى كتبتها نجاة كما هزتنى الدعوة قبل ذلك وأحسست أنها تخصنى أنا أيضا. كنت مفعماً بآمال فى إصدار كتاب واحد يضم نصوصا شعرية ونثرية وقصصا ورواية، ويضم أيضا أبرز حواراتها الصحفية مع كبار الكتاب التى تكشف فيها عن نفسها. أرصد فيها جمال نجاة كما عشته مع أوراقها ولكنى تنبهت لأنها لم تكن تهدف لنشر شيئا وكانت تمارس الأدب لتحيا فيه فقط.

كانت هناك قوى وحشية فى كتابتها، أعود وأترك نفسى بإخلاص لها. رجعت للحقيبة كمهزوم يتوقع حدوث معركة جديدة، جلست إلى المنضدة وأنا منشرح كما لو كنت أسلم جسدى لمهمة مقدسة. بدأت أقلب الأوراق وكيانى كله يهتز أرتجف وأتفصد عرقا.قليلةهى الأشياءالتى تحدث لتغير حياتى فجأة، لهذا لاأحمل ضغينة للبندارى لأنه وضع الحقيبة فى يدى وقال لك أن تختار. نحن نتنازل عن أفكارنا بالكتابة وللكتابة.. سأتلصص بحرية على أفكارها وأحلامها. جزء من هذا مخيفومرعب-لأنها ماتت- وجزء أكبر لذيذ وملىء بالاختلاف والجمال-لأنه إبداع .

يساورنى شعور بأن الحقيبة ستنفتح من تلقاء نفسها، كجنى لا يحتاج لدعك مصباح ليخرج لتتناثر ويتطاير ما تخبئه لىّ، أوراقها تأكل أوراقى كماأكلت السنبلات اليابسات السنبلاتُ الخضرُ. قصاصات كتبت فيها خواطر مراهقتها تدخل من النافذة، دفتر يوميات يتسلل من تحت عقب الباب، مسودةرواية تمشى على رفوف مكتبتى تركل كل كتبى على الأرض، مخطوط يتسلل من تحتالسرير ويباغتنى بضربات متلاحقة على كتفى.

الفوضى تلاحق فضاء الغرفة الذىبالكاد أتنفس فيه. تتقلص الغرفة إلى تابوتبجدران تتسع بالكاد لى. أزحف كجندىفى ميدان حرب.. انهزم وأمل الاستسلام يراوده. أصل إلى باب غرفتى حيث تركتالحقيبة، وبمجرد أن ألمسها يتوقف كل شىء وبربته حنونة، كهمسى لها: اهدئى،يعود الجنى إلى قمقمه. يبزغ طائر يحط على الحقيبة وينقر عليها نقرات خفيفة متناغمة مع ضربات قلبى.. لهذا لا يمكننى مقارنة حنان الطائر ونبضاته بأى شىء آخر على هذه الأرض.. عندما لفنى بهذا التوسع المدهش لم أهتم بشىء آخر، الموت هو البديل الوحيد للكتابة، دفست رأسى فى باطن الطائر ونمت.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون