عمود رخامي في منتصف الحلبة.. رواية من التسعينيات: بين قهر الواقع والعجز عن الفعل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

حمل عقد التسعينيات طفرة كبيرة - تترسخ ا وتتفاوت درجاتها الفنية – في الرواية المصرية بما لا يدع مجالًا للشك في أن هناك نهضة روائية جديدة لم تتصلب نصوصها بعد، لكن يكفيها شرف المحاولة التي تتعمق بالقراءة والاطلاع على تجارب وكتابات الآخر الغربي والعربي.

وظهور هذه الكتابات ليس بمعزل عن واقع اجتماعي أعم يدركه ولا يزال يشهده الروائي أو الروائية مما يفتح أمامه مجالًا للتعبير عن الهرم الاجتماعي المصري الذي يفصح عن خلله الظاهر. ففي واقع أساسة الحرمان وتحكم طبقة في مقدرات وأوضاع وسبل حياة طبقى أخرى مما أنتج تفاوتًا طبقيًا بين من يموتون من التخمة ومن يتضورون جوعًا. لا يمكن إغفال الربط بين حالة القهر والإحباط المتفشية في نصوص هذا الجيل وبين المناخ الاجتماعي والاقتصادي الذي نشأ فيه وطمح إلى تكوين مستقبله في ظل تناقضاته التي أدت إلى انسداد الأفق تمامًا أمام هذا الجيل كلما تفشى الفساد الذي يدعو إلى الخصخصة وتسعير كل شيء، مع ركود سوق العمل في الجبهة الداخلية التي كلما التفت إليها هذا الجيل كي يتأمل فيها ازداد غمًا وإحباطًا مع شعوره المستمر بأن طاقاته معطلة عمدًا وغير مستغلة مما يكرس تفاقم معاناته الاجتماعية.

تطلعت الرواية المصرية في التسعينيات إلى تصوير الخلل الاجتماعي المعيش على ارض الوطن عبر متن حكائي يتغاير – من نص إلى آخر – حسب الهدف المرجو، وقد ساعد على ظهور هذه النصوص للنور إتاحة مجالات للنشر منها سلسلة إبداعات التي هذه الدراسة من إصداراتها نص “عمود رخامي في منتصف الحلبة” للكاتب هانى عبد المريد.

تبدل علاقات الإنسان

لعنوان رواية الكاتب هاني عبد المريد “عمود رخامي في منتصف الحلبة” دلالة واضحة، فالعمود الرخامي هو الذي يحمل الساعة التي دأب الراوي – في بعض أجزاء النص نظرًا لتعدد الرواة وتنوعهم بين استخدام ضمير الـ “هو” للراوي العليم الفوقي عن الأحداث، والأنا التي يجسدها الحاكي عن .. أو لـ..، وضمير الـ “أنت” الذي استخدمه الكاتب كثيرًا – على مراقبتها، بينما الحلبة هى المكان الذي تتصارع حوله مجموعة من النماذج البشرية الصحيحة في زمن لا يعترف بكل ما هو صحيح، والمعكوسة التي تساير ركاب الواقع الذي يحولها إما إلى منحرفة أو يكون انحرافها متجذر فيها وبفعل بعض الظروف يحولها إلى ترس في آلة الخطأ.

الاستهلال الذي يقدمه الكاتب مرتبط بمسار النص بل هو على لسان الراوي (عاطف) الشخصية الرئيسية في النص، يقول: “كنتُ جذعًا جافًا، منتصبًا في العراء.. وحيدًا رغم كل حبات الرمال والخنافس والأعشاب المنسوبة للشيطان، وكنتِ ورقة خضراء يانعة، نبتت بود، فوق جسدي المشقق بحزن”.
وهى اللغة المباشر نفسها التي يتبع بها الجزء الأول من النص حيث يستمر الراوي في مناجاة المخاطبة (أقول لكِ ربما قبل أن يكون للسماء طبقات سبع وأنتِ بداخلي) السارد عاطف ابن الصعيد الذي يأتي إلى القاهرة حاملًا إرثًا ضخمًا من الحكايات والعادات والتقاليد، مما يجعله في استرسال من الحكي حول العالم الذي أتى منه (الصعيد) والذي أتى إليه (القاهرة) وعبر نماذج بشرية متابينة يجسد الكاتب العالمين. في زمن نصي يقم بين النكسة 1967 (تصورها شخصية الشاويش مجاهد) وما تلاها من سنوات الخراب الذي أدت إليه سياسة الانفتاح الاقتصادي، ثم هجرة الفلاحين للأراضي الزراعية سعيًا وراء مكاسب النفط في الخليج، أو العمل في العراق. والزمن الثالث في النص يتعلق بحرب الخليج ومؤثرات ما تلا ذلك على مصر. ثم يأتي عرض الهجوم الذي تعرض له برجا التجارة العالمية في أمريكا. وقد يكون الزمن متراميًا بالنسبة لأحداث النص، لكن يشفع للكاتب موهبته الظاهرة التي لم تترك خللًا ملموسًا من حيث اتساق الشخصيات مع الحداث والأزمان.

هناك شخصيتان ينفتح عيهما النص: الشخصية الأولى شخصية حنفي صاحب المقهىالفقير التي توارثها عن جده وما زالت على نفس هيئتها، في الأركان تنتشر الكراسي الخشبية بنية اللون. نفس الحوائط الجيرية والقناديل النحاسيةوالراديو الخشبي الضخم الذي لا زال دهان (الجمالكة) يلمع فوق سطحه. (ص49) والثانية الشويش مجاهد الذي يصف السارد وثوقه بأنه (له وقع فوق الرض- ولخطواته ثقل يخرس الوجود ولصوته رعد يتبعه دائمًا) وهو البطل الذي بدأ حياته مجندًا ثم تطوع بالقوات المسلحة.. الشريطان أصبحا ثلاثة.. أربعة مع حرب أكتوبر، حتى خرج بعد حرب الخليج منهيًا خدمته (ص37)، وقد ألمت بظهره الثقوب الكثيرة التي وصفها السارد بالـ (حفرة) والتي وصفها حنفي صاحب المقهى بأنها “شرفه، دي النياشين اللي بيخرج بيها البطال من المعارك” (ص46) ومجاهد يمثل الصورة البطولية الوحيدة في النص إلى جانب شخصيات كثيرة يقدم النص هزائمها. مجاهد المؤمن بسياسة عبد الناصر، لكنه ضمن تشوهات العصر الحديث صار ماضًا بائدًأ كانت نهاية تضحيته الجنون “بعدما خرج من المستشفى، وأُنهيت خدمته.. أصبح المقهى ملاذه الوحيد، لا يجد راحته إلا مع حنفي؛ الوحيد الذي يفهمه، يشعر بأحاسيسه.. يقتنع بقضيته” (ص49). وقد سبق الجزء الخاص بشخصية مجاهد جزء يظهر فيه محاولة التزيد من الكاتب، حيث أقحم حادثًا عارضًا على السرد كل دلالته التي يمكن أن تستقى منه هو أن مجاهد شخصية شبيهة بعاشور الناجي في الحرافيش – يعزز ذلك وقوعها في الحارة – أو بدون كيخوتي في رائعة ميجيل دي ثربانتس، فعندما يقدم السرد صورة لكل من (عكاشة) و(مسعود) حيث يمسك كل منهما زوجته شبه عارية محاولًا ذبحها أمام الجيران والمارة ثم يتضح – عبرالسرد – أنهما تباريا بعد تناول جرعة كبيرة من المخدر في أيهما يعتلي جسد زوجة الآخر ويحقق لها من المتعة ما لم يستطع زوجها، ويعقب الراوي على ذلك بلغة تجنح إلى العامية كي تتلاءم مع لغة الحارة المروي فيها الأحداث: “لكن مجاهد، الله ينور بصيرته، كشف كل حاجة، معملش زي الناس… أعاد مجاهد الحريم بنفسه إلى أهاليهن، طرد أزواجهن من الحي ” (ص16) وهذا الحادث مقحم على السرد كي يؤكد بطولة الشاويش مجاهد الإنسانية التي تأكدت أكثر من مرة بطولته الحربية التي لم يلق بعدها سوى الجنون، ولم يبق له إلا الهذيان بعد رؤيته الخلل العام الذي سيطر على الوطن الذي خاض الحرب من أجله.

هذا جزء من الواقع المديني الذي يقدمه النص، بينما الجزء الآخر الذي يتولى سرده عاطف بعد أن يصف نفسه بعد فرحة والده بأنه (طلع البريمو) وبعد التخرج في كلية الإعلام التي ظن نفسه سوف يتخرج فيها ليصبح مصطفى أمين، تعتصرة المأساة عندما يكتب في الأدب بالقطعة في جريدة يرأسها “مندوب الدعاية الفهلوي رجب خليل الذي أسس جريدته كمشروع تجاري وهو لا يعرف قواعد الإملاء.. أغلقت كل الأبواب في وجهك يا عاطف، لم تجد سواه تنشر دون مرتب ثابت، يعاملك بالإنتاج ما يقبلة تقبض عليه وما يرفضه يكون مصيره ومصير مجهودك فيه سلة المهملات.. رجب يتحكم في مصيرك، رجب فوق المقعد وأنت أسفله” (ص25) ففي هذا الجزء الذي يسرد بضمير الـ (أنت) وهى غالبًا نفس الراوي التي تناجيه في تحسر على الواقع الذي يكون فيه رأي الجاهل المهيمن هو المتحكم فيما يكتبه الشاب الصحفي الجاد ، بينما يظهر السرد شخصية أخرى مروي عنها هي شخصية سامح الذي يجسد الوجه الآخر لعاطف الذي يكتب كلامًا محترمًا في الأدب بينما سامح المحرر الفني الذي تقبل حواراته مع الراقصات والممثلات للنشر في الجريدة فورًا وقد أسرف الراوي في إبراز الهوة السحيقة بين الواقع الاجتماعي الذي يعيشه سامح وسط أهله بينما مصروفه الشخصي هو ما يتقاضاه من الجريدة وغالبًا ما يصرفه على راقصة مبتدئة. “في جزء صغير من صفحتي الفن، كنت أكتب أخبارًا وحوارات أدبية، مصادري أقابلهم على المقاهي”، إن صورتي رجب خليل صاحب الجريدة الجاهل وكذلك سامح المحرر الفني يتعلقان بصورة لشخصيات تتلاءم مع فساد الواقع. هذه الصورة التي لا يستطيع عاطف الالتحاق بها ومسايرة ركبها فينكمش داخل مكتبة ليصبح أمينها وأسيرًا للعادة فيها “أنتحي جانبًا.. أمسح عدسات النظارة، أتصفح الجرائد.. أتناول كتابًا.. أجلس مع الست (عفاف) الدادة محاولًا محو أميتها.. أسلم الكارنيهات.. أعيد الكتب إلى أماكنها.. أعود إلى بيتي.. كل شيء يتكرر بنفس الشكل” (ص32). السارد كذلك تظهر في القاهرة صورة ماسح الأحذية الذي يلاحظ السارد التواء أصبع يده فيسأله ليعرف أنه كان يعمل في طائفة المعمار يقبض ستين قرشًا لكن المقاول يقطع عيشه ثم يشتري له اولاد الحلال عربة (كارو) يسترزق منها وفي يوم ما يكون الحمل على الحمار ثقيلًا فتشاهده إحدى المهتمات بجمعية الرفق بالحيوان فيسجن بشكل مؤقت، وتلك الحكاية داخل النص تركت المجال للكلمات على لسان الرجل الفقير كي يقول: “منهم لله الأمريكان.. طيب ما يشوفوا العيال اللي بتموت كل يوم في النشرة والا يعني حماري هو اللي حرقهم أوي” (ص76).

إن المجتمع المديني (القاهرة) الذي يصوره الراوي يفلح إلى جانبه في تصوير مجتمع الصعيد – عبر مجموعة أخرى من الشخصيات – الذي خرج منه، لكن مع فارق بسيط أن الزمن في مجتمع المدينة حاضر حيث تسرد عين الراوي من داخله، بينما مجتمع الصعيد غائب يسيطر عليه فعل الاسترجاع.

يبدأ عاطف من قريته الخطاطبة الموجودة في الصعيد ويصف أهلها بأنهم “أناس بسطاء ينشدون الحياة، يسعون من أجل خرطة جبن قريش ورغيف بتاو” (ص38)، وعبر هذه الجملة البسيطة ينفتح السرد على مجموعة من المآسي التي تقع في الخطاطبة من جانب والتي يفرضها صراع أرض الخطاطبة مع أرض الدراويش من جانب آخر “الخطاطبة بتاريخهم وعزوتهم، أمام الدراويش خدم وأجراء الماضي، الذين تغير حالهم بعد النزوح إلى الخليج” (ص40) ويظهر السرد درجة الفساد الكبرى التي لحقت بالأرض والبشر بعد الهجرة إلى منابع الزيت النفطي الذي أفسد كل شيء.

والصراع على الأرض يدفع ثمنه زينب وزوجها عبد العال اللذين حلما بأن يكون ابنهما منصور طبيبًا كطبيب الوحدة الصحية، يعيشون من ريع ثلاثة قراريط يرعاهم عبد العال الذي يعاني من وجودهم بين أرض الدراويش والخطاطبة، وفي أحدى المعارك بين العائلتين –نتيجة لتفشي الصراع في الصعيد- تطير عين الابن منصور وتنفصل ساقه ويصبح من بؤساء القرية الذين يعيشون على فتات الصدقات. هناك صورة أخرى يقدمها النص حيث العلاقة بين هاشم سليل الخططبة وتحية ابنة الدراويش التي خرجت – نتيجة لصراع العائلتين- إلى التعليم حتى لا يكون العلم للخطاطبة فقط، ويتصدى لتلك العلاقة الأسرتان لتتزوج تحية من قريبها كمال العائد من الكويت- الذي يصف السرد درجة الوحشية التي تتعرض لها بناء على تقاليد الزواج البلدية التي تقوم عليها أعراف الصعيد –وتستمر علاقتها بهاشم بعد الزواج نتيجة لسفر زوجها مرة أخرى إلى بلاد النفط. وبعد افتضاح أمرهما تقتل تحية بواسطة أهلها ويتحول هاشم في القاهرة إلى قواد للفتيات الروسيات بعد أن يقتاده أحد الشخاص في مصر إلى هذا العمل. وهنا يظهر مدى التردي الاجتماعي الذي يلحق بالفرد نتيجة لتحكم العادات والتقاليد التي تؤول به إلى الخطيئة ومن الخطيئة إلى الخطيئة الأعظم منها التي تكتب نهايته.

هناك أيضًا –ضمن النماذج المطروحة في النص – شخصية سعيد مدرس التاريخ (وأبوه عوض) الموجود في القرية في الصعيد وتمنعه مبادئه من ترك القرية، يحاول محو الأمية والوقوف ضد العادات والتقاليد فيها يصفه السرد بضمير الـ (أنت) “أبوك وأنت، برأسك الأصلع، وقيمك البالية، كرهك للكراهية والظلم، أنت بتأقلمك مع نظارتك الطبية مشروخة العدسات، وخروجك عن موضوع الدرس.. حديثك عن طغيان إسرائيل، وظلم أمريكا.. أنت وتاريخك الذي خذلك” (ص55).

شخصية سعيد هو الآخر شخصية مهزومة، هزم الواقع الأكبر منها مبادئها. فعلى حين يريد هو تغيير الواقع يتأبى هذا الواقع عليه، ومن هو الخاسر في النهاية بينما يزداد الواقع رداءة.

إن الراوي / عاطف هو العين المبصرة على مدار النص، الكاشفة عن حياة المدينة القاسية حيث الكل يلهث وراء العلو بأي ثمن؛ وعلى ذلك فختام النص يصف تضخم النمل وهو يلتهم بعضه كناية عن البشر. وحياة الصعيدي القروي الذي يعاني التخلف والتردي، والراوي طوال الوقت ساردًا للحبيبة لمياء يلقنها كل تلك الحكايات، وقد وجد فيها ضالته بعد أن يتحسر على حياة الصعيد وعلى شخصية مجاهد الذي كان ضحية الإيمان بمدينة عبد الناصر (ص81) لا ينظر لمصالحه، ذاب في الجماعة، فجعل نفسه فداءً لها، ثم يتساءل السارد مع اقتراب نهاية النص “لكن أين هي الجماعة؟” (ص81).

………….

*نشرت في مجلة الثقافة الجديدة بتاريخ يوليو 2004

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم