إشكالية الرؤيا الشعرية وتجلياتها في شعر الحداثة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 23
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى عطية جمعة

    يتفاوت الشعراء في رؤاهم الشعرية، فهناك التقليديون الذين يبدعون مثلما أبدع الأوائل السابقون، على نحو ما نجد في الشعر العمودي بصياغته التقليدية، ولا يزال بيننا شعراء يصوغون شعرهم وفق أغراض الشعر العربي القديم،  غير عابئين بالتطور الشعري الهائل الذي حدث في القرون الأخيرة، بل في مسيرة الشعر العربي القديم نفسه. وهناك شعراء موهوبون بالفعل، ولكنهم تقاعسوا عن تحصيل أسباب التميز على المستوى الرؤيا الشعرية، فلم تتغذَّ ذواتهم بروافد الفكر والفلسفة والثقافة والجماليات والتجارب الشعرية العالمية والعربية المتميزة، فظلوا دون تطور، غير واعين بأن التميز يتأتى من الإضافة الإبداعية المتميزة، وكثير من هؤلاء تصيبهم الأنا النرجسية العالية في بداية طريقهم فتعوقهم عن التطور.

   وهناك الشعراء المقلدون، الذين يمتاحون من الشعراء العمالقة المبرزون، وكما يقال على جوانب المواهب الكبرى هناك متسلقون وطفيليون.

وأخيرا، هناك الشعراء الأفذاذ ذوو المواهب الكبرى، والرؤى الخلاقة، والبنى النصية المتفردة وهؤلاء – على قلتهم – علامات متميزة في مسيرة الإبداع الإنساني، الكثير يمتاح منهم، ويقتدي بإبداعهم، وعلى دروبهم يسير.

 ولذا، نقول إن الرؤيا الشعرية ليست مجرد تصور فكري وشعوري فقط، بل هي ذات أجنحة عديدة: أولها يتصل بموقف الشاعر من الوجود، والذي يتأسس على ثقافته وفلسفة وأفكاره، وهو موقف ليس ثابتا، وإنما ينمو ويتعمق مع تجربته، ومع الروافد المغذية لفكره التي يقرأ بها الكون والحياة والوجود. وثانيها : موقفه من البشر أنفسهم، الناتج من تصوره الفلسفي، وتفاعله المستمر مع الناس أفرادا أو جماعات في معيشتهم، وفي تقلب أحوالهم وهمومهم، وأفراحهم وأتراحهم، حبهم وعشقهم وكرههم، بالإضافة إلى مشكلات مجتمعه ذاته.

  ثالثها: موقفه الجمالي، والمنعكس على نصوصه الشعرية على مستوى الصور والأخيلة والعناوين والرموز، ومختلف الإحالات والإشارات التي نجدها في أشعاره، وكما سبق وأشرنا ؛ أن ليس كل شاعر صاحب رؤية متميزة بقادر على إنتاج نص بديع يعبر عنها، فالموهبة الشعرية الفذة هي القادرة على صياغة الرؤية الشعرية.

أما عن علاقة الرؤية الشعرية بالحداثة، فإننا نقرر بدايةً أن هناك حالة من الجدل الذي أحدثته حركة الحداثة الشعرية العربية في الثلث الأخير من القرن العشرين وإلى يومنا، وربما يعود السبب الأساسي لهذا الجدل إلى تعدد مفاهيمها، والتباساتها المعرفية والفلسفية ؛ ناهيك عن الفهم المغلوط للحداثة نفسها فيحملها جلّ مصائب ونكبات حياتنا الفكرية، وأيضا الفهم المعاكس الذي ينظر لها باعتبارها كفرا بواحا، تخالف الدين والقيم والتقاليد، بجانب الغموض الذي صاحب نصوصها الشعرية، وأدّى– وفق معارضيها – إلى انصراف المتلقي عن الشعر برمته.

  والأدهى، أننا نجد لكل مبدع تعريفه الخاص بالحداثة، والذي يعلن من خلاله مفهومه للحداثة، النابع من واقع تجربته الإبداعية، فإذا ذهبت إليه مستفسرا عن جوهر الحداثة، وجدت أقوالا شتى، وتعريفات هي خليط من فلسفات.

   وتتبدى المشكلة الأساسية في تغييب المفاهيم المؤسسة للحداثة، وسيادة مفاهيم ثانوية متفرعة، وبعبارة أخرى : غياب التأسيس واشتداد الجدال حول التفريع.

    ولأننا معنيون هنا بالعلاقة بين الحداثة والرؤيا الشعرية، فإنه يتوجب علينا النظر في ماهية الحداثة، والعودة إلى سياقاتها التاريخية والفكرية، ومن ثم الأدبية.

 ارتبطت الحداثة Modernism بحركة التحديث في الغرب، ومن ثم بدأت في التميز بوصفها حركة فكرية / فلسفية / أدبية، وذلك إبان ظرف تاريخي معين، يتعلق بالتمرد ضد سلطة الكنيسة ودكتاتوريتها، وتطورت لتصبح ثورة ضد التجربة الشعرية المتحجرة، كما رفضت الوضع الرأسمالي الصناعي والتجاري والزراعي في الغرب، والذي جعل الإنسان ترسا في آلاته العملاقة، ومن هنا تمرد الشاعر الغربي ضد هذه الأوضاع، وتغلفت ذاته بالانطوائية والاغتراب([1]).

    وقد تجلت الحداثة بوصفها مذهبا فنيا وأدبيا في مطلع القرن العشرين، مع زيادة نزعات التمرد، والتقائها مع الفكر الماركسي، ثم انتعشت بقوة إبان وبعد الحرب العالمية الأولى، كثورة ثقافية ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي أدت إلى كارثة الحرب العالمية وموت عشرات الملايين من البشر، وسيادة نزعة عبثية الحياة، ومناداة كثير من الفلاسفة بالقطيعة مع الماضي بكل ما يحمله من ضغائن.

فيمكن القول إن المفاهيم المؤسسة للحداثة هي : التمرد، والقطيعة مع الماضي وإعادة النظر في التراث الإنساني، والاعتداد بذات الإنسان وعقلانيته وفرادته.

   وهو ما صاغته الحداثة العربية، كما نجد في تنظيرات أدونيس الذي يحدد ثلاثة مبادئ تنطلق منها الحداثة كما فهمها وهي : الحرية الإبداعية دون قيد، لانهائية المعرفة ولا نهائية الكشف، التغاير والاختلاف والتعدد ([2]).

 وهي مبادئ عامة، تشمل الإبداع في كل العصور بل في كل ثقافة ولغة، فأدونيس يرتكز في أطروحته” الثابت والمتحول” على فكرة التمرد الحداثية، ويسعى إلى تطبيقها، على البنية الذهنية في الثقافة العربية الإسلامية وعلى إبداعاتها، التي يهيمن عليها الدين عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة، غير ناظر إلى أن الثقافة العربية الإسلامية صنعت حضارتها وإبداعاتها الخاصة بها، شأنها شأن كل الحضارات التي يحتل الدين الصدارة فيها، بل إن الحضارة الإسلامية تنعت بأنها حضارة”نص مقدس”، وهو القرآن الكريم والعلوم التي نشأت حوله، ومن ثم تمددت حتى استوت حضاريا ومعرفيا وفكريا وإبداعيا، وتلك إشكالية أدونيس وغيره من الحداثيين، ينطلقون من فكر غربي علماني، يحاول أن يقرأ به حضارة دينية، وهو على النقيض يتيه فخرا بجماليات الإبداع في التراث العربي، والرصيد الهائل من الإبداع الشعري والسردي والفكري فيه، وهو ما جعله يقول مسوغا لمشروعه :” آثرت أن أضع ثقافتنا وتراثنا في مناخ الأسئلة والتساؤلات، من زاوية اهتماماتي، من أجل فهم المعاني والكشف عنها.. والغاية من هذه الأسئلة أن أفهم من داخل الرؤية العربية الإسلامية معنى هذه الثقافة ودلالتها” ([3]). وهي رؤية في جوهرها تشتمل على إعجاب كبير بالتراث العربي، الذي يحفل بكثير من النصوص والنتاجات المتناسبة مع بنيته الثقافية، وأيضا يحمل نتاجات متضاربة ومتضادة مع هذه البنية، وذلك محور أطروحته عن الثابت / السائد، والمتحول / كل إبداع متجدد. إن إدونيس – شأن مبدعي الحداثة الغربية –  يدعم كل أشكال التمرد الإبداعي، وتعزز الاختلاف عما هو سائد، وترنو إلى التغاير عن المطروح، وتجعل المبدع في حالة دائمة من البحث عن الجديد.

   ومن هنا تتأسس الرؤيا الشعرية، التي تجعل المبدع متمردا مختلفا مغايرا، لا يكون نسخا جديدا لإبداع قديم، وإنما يرنو دائما إلى التمايز، ويظل في حالة من القلق، تجعله يتطلع معرفيا وفكريا وفلسفيا، من خلال طرح الأسئلة على ذاته وعلى الوجود وعلى الحياة وعلى المجتمع وعلى الوطن نفسه وموقفه النهضوي.

………………..

[1] ) الحداثة في الشعر العربي : أدونيس نموذجا، سعيد بن زرقة، أبحاث للترجمة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2004، ص29، 30.

[2] ) الثابت والمتحول : بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، أدونيس، دار الساقي، بيروت، ج 1 ( الأصول )، ط7، 1994م، ص20.

[3] ) السابق، ص34.

مقالات من نفس القسم