لم ينزلق لمعارك رخيصة، لن تجدى ولن تسمن، رأيناه شامخا فى كل الأوقات، حتى فى المحنة الكبرى، وهو على فراش المرض، وفى غرفة العمليات يجرى الجراحة الكبرى فى القلب. اختار أن يكون عظيما، يقدم أوراقا للمثقف المصرى وصفها القراء والمتابعون بالمحيرة والكئيبة، لكنها صادقة وحقيقية.
كثيرون من يتحدثون عن الماضى والتاريخ، وكثيرون من يتحدثون عن المستقبل، هو لم ينكر أحدا، فيظل محتفظا بأولئك وهؤلاء. يظل محتفظا بذاكرة لا تنضب من المواقف والأعمال الإبداعية، ويظل مبصرًا لواقع مصر، حاضرا ومستقبلا، لا يصادر الحلم عنا، ولا يهتم كثيرا بواقعية الأشياء وسوداويتها إذا كانت كذلك. هو فقط قال لى إن من حقى أن أحلم بمستقبل أعظم لى ولوطنى وقت أن هاتفته بعد الثورة.
كنت مشتاقا لأن أعرف رأيه فى ما يحدث بمصر. كان مقتضبا فى كلامه، لكن آراءه هى آرائى. لن أنسى كلماته عندما قال لى «الثورات موجات، والموجات القادمة ستكون أقوى وأكثر حسمًا، بشرط أن نتجنب أخطاء الماضى». هكذا كانت نصيحته.
انتمى للحزب الشيوعى المصرى وقت دخوله إلى كلية الحقوق، وخلال أول سنتين كان يقوم بتكليفات ويوزع منشورات خاصة بالحزب، لكن مكتبة الجامعة وكتبها أغرته، فأهمل العمل السياسى، حتى إن المبدع والناقد الكبير إبراهيم منصور رحمه الله، المسؤول عنه فى التنظيم وقتها، عنفه بشدة، لكنها نداهة الكتب يا أسيادنا.
وفى بداية السبعينيات، وقت ثورة السادات على المثقفين والسياسيين الناصريين، التى سماها الرئيس الراحل بـ«ثورة التصحيح»، وجد الديب اسمه فى الصفحة الأولى بجريدة «الأهرام» كواحد من كبار المتآمرين على البلد، كما تكرر الموقف أيضا قبل حرب أكتوبر، ومنذ هذا الوقت هرب تماما من السياسة إلى الأدب، بينما حاول البعض المقاومة، ومال آخرون للانتهازية، وتوغلوا فى دهاليز السلطة.
فرض على نفسه عزلة اختيارية منذ السبعينيات، أما فى الألفية الجديدة ففُرضت عليه عزلة إجبارية، بسبب المرض، يقول «أميل إلى العزلة والقراءة والكتابة، أما العمل بالسياسة فيحتاج إلى الاتصال المباشر بالناس، وأنا عندى مشكلة طول عمرى، إنى لا أملك قدرة للاتصال بالناس، فكان اتصالى المباشر بالكتب».
هو يرى أن مساعدة الأجيال الجديدة هى الأكثر إفادة لهم وله. يذكر العم علاء أن أهم من نشر لهم على الإطلاق ويفخر بذلك هو الراحل إبراهيم أصلان، عندما نشر له فى بداية حياته عددا من القصص فى مجلة «صباح الخير». له رأى فى إبداع جيل الستينيات يُغضب كثيرين، لأنه يرى أن لا أحد فيهم استطاع الوصول إلى الضمير المصرى، إلا عن طريق تحويل أعمالهم إلى مسلسلات وأفلام، بينما آخر من وصل بالفعل ومسّ الضمير هو نجيب محفوظ.
الديب يحتفل اليوم بعيد ميلاده الخامس والسبعين، فهو مولود مع نشوب الحرب العالمية الثانية، فى عام 1939. ولد فى قلب القاهرة، فى منطقة مصر القديمة، حصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة فى أوج مجد جيل ثورة يوليو، فى عام 1960 كان عبد الناصر وقتها يتحدث عن العزة والكرامة والمجد المنتظر، وكان الديب ضمن الجيل الذى كان يحدثه الزعيم الخالد فى كل خطاباته.
كان ابن حى المعادى ملهما لأجيال وأجيال من النقاد والمبدعين، ولعشرات السنين يقدم لهم عصيرا للكتب، الذى كان أحد أهم الأبواب الثقافية فى تاريخ الأدب والثقافة المصرية، فى مجلة «صباح الخير». له من القصص القصيرة، مجموعة «القاهرة» التى كتبها عام 1964، وكذلك «صباح الجمعة» 1970، و«المسافر الأبدى» 1999، و«الشيخة»، و«الحصان الأجوف»، بينما له من الروايات خمس، هى «زهرة الليمون»، التى كتبها عام 1978، و«أطفال بلا دموع» 1989، و«قمر على المستنقع» 1993، و«عيون البنفسج» 1999، و«أيام وردية». كما ترجم مسرحية صمويل بيكيت، «لعبة النهاية» فى عام 1961، و«امرأة فى الثلاثين»، ومجموعة قصص مختارة من كتابات هنرى ميلر عام 1980، بينما كتب الحوار العربى لفيلم «المومياء»، الذى أخرجه شادى عبد السلام، فى عام 1965.
أما عن «وقفة قبل المنحدر»، فيطول الحديث، ولكن المقام لا يتسع لذلك، تماما مثل عمله العظيم «عصير الكتب» الذى طبعته دار الشروق منذ أعوام قليلة، ويقدم نبذة عن مئة وأحد عشر كتابا فى الرواية والقصة والشعر والسياسة والاجتماع والموسيقى والتاريخ.