ولأن القصة فن مراوغ بطبيعته، ولأن قصيدة النثر مسألة إشكالية بامتياز، يحسن بنا الابتعاد عن مناقشة تلك العلاقة الشائكة، متوهمة كانت أم حقيقية، أو على الأقل أن نتركها للجديرين بتناولها وسبر أغوارها، حتى نفرغ لقراءة قصص ذلك الكتاب، بصرف النظر عن التجربة الشعرية السابقة لمبدعه.
جاءت قصص الكتاب فى قسمين منفصلين، ولم يلفت نظرى أى تمايز بين قصص القسمين لا فى اللغة أو الأجواء التى تناوشها، اللهم إلا طول القصص نفسها، فقد جاءت قصص القسم الأول، لاحظوا أن عنوانه لمح البصر، قصيرة للغاية، أطولها لا يكاد يكمل ثلاث صفحات من القطع الصغير، بينما نجد قصص القسم الثانى امتدت قليلا، بما يتناسب مع الحركة المكانية التى يوحى بها عنوان هجرات مؤقتة. هذا مجرد تفسير للتقسيم، ليس إلا، وإن كان اختيار محمد خير للعناوين، فيما يخص القسمين والقصص نفسها ليس اختياريا جماليا محضا، بل ينم أحيانا عن رغبة فى التعليق الخارجى، أو الإضافة الحقيقية لنص بعض القصص، بالكشف والإضاءة، فعلى سبيل المثال نحن لا نتعرف اسم الشخص المفترض فيه الجنون، والذى يحادث الرواى، فى أولى قصص الكتاب، إلا من خلال العنوان، وهو فادى.
ومن قصص القسم الأول قصة أخرى، يزور فيها الراوى أحد الأقارب أو الأصدقاء القدامى، بعد انقطاع الصلة عشر سنوات وتهافت الذكريات المشتركة والعادية التى أضفى عليها الزمن سحرا ليس منها. الزيارة طلبا للمساعدة دون إعلان ذلك صراحة، فنشعر بضيق الرواى المكبوت، والذى ينفلت منه فى حديثه إلى نفسه وإلينا أيضا “…لكنى انشغلت أكثر بحالة ضيفى المزرية، وبينما كان يحكى آخر أخبار الذين نسيت أسماءهم كنت أفكر فى كيفية المساعدة التى أستطيع أن أقدمها له”، ليأتى عنوانها حاسما ونهائيا: “موعد لن يتكرر”.
لا نلمس إدانة صريحة للذات، من قبل رواى القصة، لموقفه من هذا الضيف الذى يود التخلص منه بأسرع وقت ممكن، ومساعدته بأسهل طريقة ممكنة، لكنها، الإدانة، تتحرك بين السطور، شأنها شأن أغلب الأفكار والمشاعر المخفية بعناية فى قصص المجموعة، من قبيل الارتباك والشعور بالوقوع فى فخ غير مفهوم الأبعاد، فى قصة فى شارع خاتم المرسلين أو القلق العصبى من حدوث هجوم إرهابى على الحانة التى تجمع الفتى بفتاته، فى أى وقت، وهو عنوان القصة نفسها، أو حتى التخاذل عن مد يد العون لفتاة وقعت فريسة ليلة حمراء لشباب يسكنون بجوار الرواى، وطلبت منه الاتصال بالشرطة فى الرابعة صباحا، فى قصة ضوء المصعد. كل هذا تم إخفاؤه بحرص شديد، وإظهاره بكل قوة على الرغم من هذا، فى لعبة قصصية تحتال بالسرد الخارجى، شبه المحايد، من ناحية وبتتبع أفكار رواينا ومشاعره التى تشى به، وإن عمد هو للتخفى والتنكر، من ناحية أخرى. تلك اللعبة من متعها العديدة مقاسمة القارئ السر، دون الإفشاء به، مخاطبة ذكاءه الخاص واستنفار أحاسيسه دون تهييجها عنوة، عن طريق الحيل المعروفة والمبتذلة.
المفارقة تبدأ من العنوان كذلك فى قصة على رصيف واسع، ذلك أنها منذ سطرها الأول، تدخلنا فى حالة من الضيق والاختناق، من خلال وصف مشاجرة بين سائق تاكسى وراكب، هو من يتطوع لحكاية المشهد من وجهة نظره، دون أن يترك لنا الفرصة للتعجب من قدرته على ملاحظة كل تلك التفاصيل فى خضم الغضب والعراك والتلاحم بينه وبين سائق التاكسى. فالمشهد أمامنا متجمد تماما ثابت، اثنان، وحدهما تماما، على رصيف أحد الكبارى، يمسكان بخناق واحدهما الآخر، ثم أفكار وهواجس الراكب، “استطعت أن أتحسس بسرعة جيبى الخلفى وتأكدت أن المحفظة هناك، فاشتدت قبضتى على رقبته، وتمنيت لو يمر من يفرق بيننا فأرحل ولكن لم يحدث”، والتى لعلها لا تبتعد كثيرا عن أفكار وهواجس خصمه الذى لا يقل عنه عنادا. تبدأ القصة من النقطة التى تنتهى عندها، دون أن يستجد أى شئ، غير أن تثبيت المشهد يتيح لنا تأمل الجانب العبثى للموقف، المضحك والمؤسى فى الوقت نفسه،كما يتيح للراوى تتبع أصل المشادة البسيطة والتى انقلبت إلى معركة عجيبة، وأن يلاحظ الرمشة العصبية لعين السائق، المتكررة بإيقاع ثابت، وملاحظة بياض عينه اليسرى، وللانتهاء لنتيجة أنه – ربما من زاوية ما – لا يراه. هنا لا ندرك إن كان الراوى يود أن يستخدم هذه النتيجة لصالحه، فى العراك المتجمد الهزلى، أم ستكون سببا لتراخيه وللانفصال.
المسكوت عنه، فى قصص هذه المجموعة، ليس الثلثين الغارقين من كتلة الجليد العائمة، كما تعلمناه على أيدى السابقين، أى أنه ليس جزءا محجوبا بقصد، وموحى به بلماحية، من جسد الحكاية، بقدر ما يمثل المسكوت عنه هنا سرا لو انكشف لفسدت اللعبة، أو لغزا لا حل له إلا عرضه كما هو. وقارئ المجموعة لن يغفل عن صيغ التشكك والحيرة التى يعتمدها الراوى غالبا. فمثلا، فى قصة ضوء المصعد، حيث تستنجد به الفتاة، نقرأ: “وباغتنى ضوء الصباح الأول، وداخلتنى الظنون فصورت لى أن صوت جر أكياس القمامة أعلى من اللازم، وأنه ربما يكون صوت سحب شئ أثقل من فضلات السكان”، هواجس الراوى هنا لها ما يبررها، بعد مشهد الرابعة صباحا، ولكن قد يكون كذلك مبالغا فيها نظرا لأنه قضى ليلته ساهرا. فى قصة قطة فى مطعم صغير، وبعد أن يدخل الراوى للمطعم، قبيل مدفع الإفطار وبعد أن يبعد عنه القطة التى تتمسح به، يلاحظ صاحبة المطعم، الواقفة خلف الفاترينة، ترتدى قميصا رجاليا فوق بنطلون واسع، ثم بعد قليل يخاطب نفسه بشأنها قائلا: “وتتخيل الرجل العجوز وقد مات لترث زوجته المطعم الصغير فتعمل فيه بنفسها لأنها لا تتحمل أجرة العمال أو لا تثق بهم، أو لأنها حجة كى تغادر الأرملة منزلها كل يوم”. بينما يستعرض رواينا احتمالات السبب الكامن وراء عمل صاحبة المطعم فيه بنفسها، يخلق حكايات محتملة ويقوضها وكأنها لعبة، غير مستعد للاطمئنان لحكاية منها والبناء عليها.
الخبرة اللغوية التى تقف وراء قصص الكتاب ليست خبرة شعرية، أو على الأقل ليست خبرة شعرية رثة، تتسلح بجماليات بلاغية سهلة ومضمونة التأثير، بل هى خبرة سردية فى الأساس، فلم نجد، مثلا، مناجاة ذاتية وجدانية، دون شد لوتر الحركة والوصف ودوران عجلة الحدث، ولو كان حدثا حلميا. حركة السرد داخلية فى أغلب الأحيان، تنجم عن التوتر المكتوم، والحيرة بين اتخاذ قرار أو آخر، مهما كان الموقف يبدو لا وزن له، فإن توتر الشخصية يمنحه ثقله الإنسانى.
إذا تحلينا ببعض الجرأة لقلنا إن الأسلوب هنا قد شرب الدرس المحفوظى شربا، ولكن أى نجيب محفوظ؟ فهناك أكثر من واحد كما يعلم كل مطلع. إنه الدرس الأحدث، درس النصوص الصغيرة، المنمنمات المنسوجة بصرامة يؤاخيها الحنان. أقصد على وجه التحديد نصوص أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة، حيث الشحنة اللغوية قادرة على خلق التوتر بمفردات قليلة، وعلى إنتاج المعنى بسطور معدودة، تكاد تضم الأسئلة الإنسانية الخالدة، بكل وجوهها المتحولة. لا أقول إن كاتب القصص ذهب إلى هذا الحد، بقدر ما وعى درس تلك النصوص، ولعلها الأقرب فى مجمل أعمال عمدة الرواية العربية إلى أفئدة الكتاب الشبان، أو إلى إيقاعهم. ولاحظوا معى مقتطفات من قبيل: “وشعرت بخوف طفيف ما لبث أن أطاح به الحر والزحام”، فى قصة عشرة جنيهات، أو: “انشغلت بالأمل الساذج فى أن تأتى النجدة فى آخر لحظة دون أن أعرف من أين” فى قصة تقاطع. ولا حاجة هنا للإشارة إلى أن اللغة التى نتحدث عنها ليست سلامة النحو والصرف والتراكيب، أو حتى ضبط الشكل وعلامات الترقيم، مادمنا فقدنا الأمل فى العثور على كتاب يخلو من أخطائها، مما يصدر فى وقتنا الراهن.
لعله الاستخدام المتميز لضمير المتكلم، ولعله درس اللغة الصافية والمقطرة، ولعله التجنب العنيد لكل ما يسهل قوله والتعبير عنه، ربما لذلك كله أو لأسباب فنية أخرى أجدنى لم أشر للقصص التى لم تكن بهذا المستوى فى المجموعة البديعة، وهى قليلة على كل حال.