د.فاطمة الحصي
ليس لديّ شك في أن الروائي محمد بركة، وهو من أبناء مدينة دمياط المصرية العريقة، قد تلقى تربية أبناء المحافظات ؛بداية من حفظ القرآن الكريم ومن ثم الحرص على التفوق في الدراسة بالجدية التي يتربى عليها أبناء المحافظات “وأنا منهم” كما يليق بشخص أخذ الحياة في مجملها مأخذ الجِد. “بركة” من مواليد السبعينيات، تلك الحقبة التي لم يعتد ابناؤها على الألعاب التكنولوجية وقلة سبل التلهي؛ من هنا أتنبأ أن يكون قد حفظ القرآن منذ طفولته ؛وليس خافيا عليه تلك الآية: (وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ)؛ وأقصد هنا أن عنوان روايته الأخيرة “عرش على الماء” الصادرة عن دار “أقلام عربية” بالقاهرة مستمد من آية بالقرآن الكريم وهو بكل تأكيد ليس اختيارا عشوائي؛ فمؤلف “حانة الست” و”أشباح بروكسل” لا يستخف بقارئه.
وفي ظني أن اختيار العنوان في حد ذاته هو مأزق كبير وضع بركة نفسه فيه، فمن ذا الذي سيقبل نشر رواية تحمل آية من القرآن وهو ما قد يٌحمّل العمل فوق ما يتحمله؛ وقد صدر النص عن دار نشر “أقلام عربية”؛ التي نحييها على شجاعة النشر؛ ومن البديهي أن يسأل القارئ نفسه حول هذا الإختيار للعنوان، أهو للدلالة على أن الشيخ يرى ذاته كظل لله تعالى على الأرض؟ أم أن الرواية تجسيد للذات الإلهية في شخص الشيخ مشهور؟
من يخلق الآخر؟
اللافت حقا أن الرواية تمنحنا الكتالوج لكيفية خلق نموذج الشيخ مشهور؛ الشيخ المشوه داخليا؛ كيف ينمو، وما هي البيئة الحاضنة له؛ وما العوامل التي تساعد على وجوده وتطوره؛ وكيفية تصعيده ومساعدته من قِبل جهات مختلفة ومتعددة ؛عربية كانت أم أجنبية، بأغراضِ سياسية. قدم “بركة” شخصية الشيخ بحرفية أكاد أجزم أنه صهره على نار الإبداع أولا ثم دمج ثلاث أو أربع شخصيات معاصرة في هذا النموذج لذا لا تستطيع إسقاط هذه الشخصية على شخص واحد معلوم للجميع كالشعراوي أو غيره من شيوخ معاصرين كما أشاع البعض وقد أكد التنويه الذي يتصدر العمل إننا بإزاء “عمل إبداعي ومحض خيال وأي تشابه مع الواقع محض مصادفة”. وقد نجح المؤلف في توصيل ما أراد من سمات بالشخصية كالإزدواجية والشراهة بلا مبالغة.
أما التحليل النفسي العميق لشخصية البطل بالرواية من الجانب الذكوري المتأصل فيه وإلقاء الضوء على الشهوانية التي تتحكم بسلوكه والتي لا يحدّها ضمير أو خوف من الله فكان شديد الدقة والتعمق؛ ويكشف تناول الكاتب لحجم الفجور في شخصية البطل الهوة العميقة ما بين الصورة الداخلية الحقيقية التي تميل إلى الفجور كأي إنسان يحمل بداخله الخير والشر وما بين الصورة الخيالية التي يخلقها البعض عن الشيوخ ويصدرونها للجماهير ويروجون لها للتأثير عليهم؛ والأوهام التي يقع فيها الشعب ومن ثم يخلق هو بنفسه ذلك الفرعون الذي ما يلبث أن يرتدي ذلك الجلباب الذي صنعوه من أجله؛ مما يجعلنا نتساءل: أيهما يفسد الآخر: هل يُفسد الشعب الشيخ أم العكس وأيهما يخِلق الآخر؟
كما عبر “بركة” عن حجم الغرور الذي عاشه الشيخ مشهور في كلمات شديدة الصراحة “ابنهم الذي أوشكت الدنيا أن تخضع له” و نجح في تصوير موقف الشخص الذي يزدهر وعودته للقرية مرة أخرى بدقة وموقف أهل البلدة منه فهم لا يرون فيه فيه سوى بنك متحرك واراها صورة واقعية للغاية لما يحدث بالقرى مع كل من سعى للتغيير للأفضل ونجح.
جنون الشهرة
سلط “بركة” الضوء على المعاناة في روح البطل ولكنه لم يكن متحيزا أو متعاطفا معه بل كشف لنا بصرامة عن كونها ليست نابعة من إحساسه بالذنب أو تأنيب ضمير ولكنها نابعة من عدم قدرته على الوصول لما يرنو إليه من رغبات وشهوات؛وهذا ما عبر عنه “بركة” وكان واضحا جليا في الإبتهالات والدعوات التي تصدرت كل فصل من فصول الرواية؛ مثل: “اللهم بحق الفيوضات الربانية التي تغمرني بها، ما سر حكمتك في أن يخطف قلبي بريق الذهب وتهفو نفسي اللوامة إلى ريش النعام؟” أو الإبتهال التالي: “سبحانك وهبت أبي على الكبر قبسآ من نار اللذة ؛واصطفيت لي أنا الفحل الشاب قطعة من اللحم البارد أعاني عند تسخينها” أو: “لا إله إلا أنت سبحانك ضاقت عليّ الأرض بما رحبت وانتظرت إشارتك ،فلم تأتني إلا وساوس إبليس الملعون” أو “اللهم أعني على رجل عظيم اللحية يسكن الشيطان عينيه أضل كثيرًا من عبادك فأشرقت قلوبهم بنور التفكير العقلاني المادي”.؛ و تجلى جنون الشهرة والعظمة كغواية أو كنداهة تسيطر على حس وكيان الشيخ في ابتهاله: “اللهم بحق إسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، أسألك أن تجعل لي من اسمي نصيبًا فيعرفني القوم كما يعرفون سعد زغلول ومنيرة المهدية”.
ورغم أن هذه الإبتهالات تعد إلهاما حقيقيا ومتميزا إلا ان حرص “بركة” على توطئة كل فصل بها جعل بعضها يظهر أحيانا بمظهر كتابة شاعر مبتدئ يقوم برص كلمات متناقضة؛ إلا أننا لا يمكن إلا أن نعترف أن بركة وٌفق في كتابة معظم الإبتهالات بما يعكس عمق الصراع الداخلي لدى الإنسان بشكل عام والشيخ مشهور بطل الرواية بشكل خاص . إنه صراع يدور في نفوس البشر خاصة في الشرق حيث التربية الدينية تتصارع مع رغبات البشر الغريزية ؛ ونجد غواية النساء التي استحوذت على خلايا جسد وعقل الشيخ مشهور واضحة جلية في هذا الإبتهال: “يا من جعلت الرعد همسك والبرق عصاك، أسألك بكل أدب وتوقير: لماذا خلقت قلبي شمعة واهنة تتقاذفها رياح النسوة؟” و”اللهم إنك تعلم أن الزهد ثوب ضيق على قلبي فلا تحمل عليّ إصرا كما حملته على الذين من قبلي” كدلالة على الجشع وحب المال والرخاء بشكل جنوني.
استوقفني كثيرا علاقات الشيخ مشهور اللإنسانية بأسرته الأب والأم وزوجة الأب ثم زوجته ومعاملة المرأة معاملة الشئ أو مؤدي الغرض بشكل فج يظهر ذلك جليا مع كل أصناف النساء التي مرت عليه في حياته؛ كذلك علاقته بأولاده واحتقاره لإبنه المعاق ؛ما يعكس قسوة القلب التي لا يمكن هنا أن يتوافق مع صفات الدعاة أو الأولياء الحقيقيين ووصولا إلى خيانة الوطن بلا ذرة تأنيب ضمير والتعايش مع حجم التناقضات المريعة وتبرير كل هذه المتع بـ “التمييز ما بين العوام والخواص” كأنه أحد الصوفيين الكرام.
مقتطفات من الرواية
– “متعب، فكن أنت راحتي يا رحمن أرهقني التقلب بين سادتي العرب والأجانب، أتلقى من هذا صرة دنانير ومن ذاك تحويلا مصرفيا”.
– “لتكن كبير العائله ارتدي عباءتك السوداء فوق الجلباب الأبيض تحمل عصاك بيمينك والرياح بشمالك تؤمّنا في الصلاة وتتقدمنا حين نسير”.
والمؤلف يشير هنا إلى بداية الحقبة الساداتية ؛مرحلة استحواذ الشيوخ على عقول الشعب ودفعه للإستكانة وقبول الفقر والجهل والمرض والخنوع.
– “وماهي ملابسات تجنيدهم؟ هل قيل لهم أيضا ً إنكم تؤدون رسالة جليلة تجاه دينكم أم أن كل عضو له مفتاحه الخاص؟”
– “هنا ارتديت واحدا من أحب أقنعتي إلىّ الزهد والحكمة والتجرد، قلت بصوت مستعار من هضبة التبت وصلوات معابدها إنني لا أبحث عن نفسي وإنما عن الأزهر الشريف ومكانته في العالم الإسلامي”.
– “دخلت القصر الرئاسي فعرفت أن حبي للأبهة يتخلل روحي وأن الزهد ثوب ضيق على جسدي”.
جدل الخيال والواقع
ربط بعض القراء أحداث الرواية بمشايخ عدة وتردد اسم هذا و ذاك، على أي حال لا أعلم عن حياة هؤلاء المشايخ الشخصية شيئا ولا أفهم لمَ زج البعض بهذه الأسماء بشكلِ خاصة. وفي ظني أن محمد بركة تأثر ككل أبناء جيله بأفلام معاصرة كالكيف والعار وهي من الأفلام التي تركت أثرها حتى على لغة الحوار بين هذا الجيل لكن هذا لا يبرر في اعتقادي الزج بكلمات ترددت على لسان شخصيات الرواية كما في العبارة التالية: “لو كان الحشيش حلال فنحن نشربه وإن كان حرام فنحن نحرقه” وهي جملة مشهورة للغاية ترددت على لسان بطل فيلم الكيف الفنان محمود عبد العزيز.
محمد بركة روائي يمتلك أدواته الخاصة ولغته الإنسيابية الخاصة الممتعة ؛وتتميز انتقالاته في الأحداث بالسلاسة والبساطة كما أن البناء القصصي لديه متماسك ومحكم؛وقد نجح في تشريح شخصية الشيخ مشهور الوحش ممن عايشوا الحقبة الزمنية الملكية وتطورها الزمني وتلوُنها عبر العصور بشكل متقن للغاية ؛بالرغم من كونه يلعب في روايته الجديدة بالنار حرفيا.
أخيرا أود أن ألفت النظر إلى مقدمة الرواية التي ظننتُ في البداية أنها دخيلة ولا مبرر لها ليفاجئني “بركة”بربطها المبهر بخاتمة الرواية فلكي نفهم أكثر سيتحتم علينا إعادة قراءة الرواية مرة أخرى.