حاوره: عبدالله المتقي
عبدالقادر بن الحاج نصر قاص وروائي ماطر ، يعاني كما يعاني الناس من وجع ومكابدات ، يكتب شطر النّهار وبعضا من اللّيل في الكتابة والقراءة ، أولى رواياته ” الزيتون لا يموت ” وأصغرهما حجما حائزة على جائزة ” الشركة التونسيّة للتوزيع “، كاتب لا يبحث عن مدرسة أو اتّجاه، بل همه الأوّل أن لا أخرج من جلده، وبمناسبة صدور روايته من قتل شكري بلعيد .. كان لنا معه هذا اللقاء :
. 1 من أنت يا عبد القادر بن الحاج نصر في خضمّ هذا الفيروس وهذا الصّراع على الوجود؟
أنا على أهبة الانقضاض على ما حولي لأحطّم ما تطاله يدي حتى تدمى أصابعي وتفشل ريحي لتسكن نفسي.. أنا يا سيّدي شديد الانتباه الى ما يجري من حولي إلى درجة الألم والوجع. أنا أعاني -بما في الكلمة من معنى – ما يعانيه الآخرين، بل إنّ معاناتي مضاعفة. أعاني ما يعانيه النّاس من حولي ثمّ ما أشعر به أنا.. إنّها المرارة والحزن في هذا الزّمن الكئيب، أو تظنّ أنّ فيروس كورونا هو سبب رئيسيّ في تدهور الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، أبدا، إنّ مصائبنا حاضرة فينا قبل هذا الوباء وخلاله وحتى بعده، أكثر بكثير من الأوبئة الخارجة عن نطاقنا.. إنّ الذين يصارعون الوباء من أجل الوجود هم أبناء الطّبقة الوسطى وما دونها وهؤلاء يتمنّون أحيانا أن يرحل بهم الفيروس بعيدا وبلا رجعة حتى يتخلّصوا من الهموم.
- من أين اتيت بهذا الشكل القصصيّ والرّوائيّ والمسرحيّ وأين تبني خيمتك وتستريح؟
ممّا أدري وممّا لا أدرى.. لعلّه ابتلاء عليّ أن أرضى به وأتحمّله وأتعايش معه.. هذا ما يحدث معي وإلاّ ما معنى أن أقضي شطر النّهار وبعضا من اللّيل في الكتابة والقراءة وأنا أعلم أنّ محيط النّشر والتوزيع والاعلام معادٍ لي وللكاتب المبدع بصفة عامّة.. كان لابدّ أن أقع عن الكتابة منذ زمن طويل لولا إحساس يغتالني كلّ لحظة إذا ما أدرت وجهي عن كتبي وكرّاسي وقلمي .. كلّ خيمة أبنيها طلبا للرّاحة والسّكون والانسجام مع الكرّاس والقلم إلاّ وكانت سببا للمتاعب والأحزان .. أحيانا كنت ألتجئ في عزّ حرارة الصّيف إلى ساحة منزلي فأكتب وكأنّني أداوي جرحا، ر بّما كأنّني أحدث جراحا لأطفئ ألم جرح غائر.. وما الكتابة في الحقيقة إلاّ جرح ينزف لا يوقف نزيفه مرهم أو ضمادة.. أنا أكتب في العراء ولا أستظلّ بخيمة.
- ما الذي يسكنك ويفتح شهيّتك للكتابة؟ وما هي الأسئلة والهواجس التي تحرّكك ؟
لا أظنّ أنّ لي شهيّة للكتابة.. أقول هذا صادقا.. إنّني أقبل على الكتابة وأنا كاره لها.. متهيّب لردّة فعل القارئ والنّاقد ورجل الاعلام.. ما مستوى النصّ الذي أقدّمه للقارئ؟ ما درجة تقبّله له؟ ما درجة عزوفه عنه؟لعلّني أكرّر نفسي.. ربّما أعيد رسم ما كتبته سابقا دون أن أدرى، هل أنا وأنا اكتب بصدد تجاوز مضمون نصوصي السّابقة وشكلها؟ إنّها المعركة الطّـاحنة التي أجبر على خوضها وأنا أدرك مسبّقا انّني الخاسر الأول والأخير. تمرّ بي لحظة واحدة، كإشراقة ضوء، فرحة عابرة تسكنني للحظات حين أنتهي من كتابة رواية أو قصّة أو مسلسل تلفزيونيّ وسرعان ما أجدني خارج الخيمة لا ظلّ ولا دفء ولا طمأنينة.
إنّني أعيش في مجتمع متقلّب.. أما رأيت ما يجري في هذه المجتمعات العربيّة.. مجتمعات مسكون فيها الفرد والمجموعة بالإحباط والخيبة.. مأساة … الانسان العربي في مجتمعه مأساة سيزيفية.. أتساءل في كلّ حين متى ينتهي الوجع، متى نظفر بالاستقلال الحقّ، متى نفتكّ هويّتنا الوطنيّة، متى نرتقي فوق منظومات الفساد والإرهاب والزّيف.
- الرّوائيّ الفرنسيّ بلزاك لا يبدأ في الكتابة إلاّ عندما يضع بجواره سطلا كبيرا من القهوة، بالمناسبة ماذا عن طقوسك وأنت داخل محراب الكتابة؟
لبلزاك طقوسه، كما لسارتر وتولوستوي.. أمّا أنا فأكاد أكون بلا طقوس تذكر.. بدأت أولى كتاباتي بين رحاب المقاهي الشعبيّة المكتظّة، مثل مقاهي حيّ باب سويقة.. ولم أكن أنزعج من صياح الحرفاء ولاعبي الورق والدومينو، ولقد كتبت ذات مرّة في فضاء المقهى دفعة واحدة قصّة بعنوان ” راجع ليلعب الورق” وشاركت بها في مسابقة سنويّة ينظّمها نادي القصّة وقد نلت بها الجائزة الوحيدة.. إنّني أكتب في أيّ ركن من أركان المنزل.. ولكم التجأت أيّام الشتاء الباردة إلى المطبخ حيث تعدّ زوجتي وجبة العشاء فانهمك في الكتابة والدّفء يسري في جسدي .. كما كتبت رواية كاملة ” صاحبة الجلالة” التي حازت على جائزة علي البلهوان التي تنظّمها بلديّة العاصمة وكانت في الستينات والسبعينات أهمّ جائزة على المستوى الوطنيّ، أنجزتها وأنا متربّع عشايا الصّيف على حصير وأمامي طاولة صغيرة .. لست ممّن يطلب شيئا للاستهلاك أثناء حصص الكتابة، قد لا يتجاوز طلبي كأس ماء.. الآن لم أعد أتحمّل المقاهي الشعبيّة.
- تظلّ ذكرى الكتاب الأوّل عالقة في ذاكرة الكاتب فهي لا تخلو من بهجات ومتع.فمالذي بقي من هذه الذكرى ؟
أولى رواياتي ” الزيتون لا يموت ” وأصغرهما حجما حائزة على جائزة ” الشركة التونسيّة للتوزيع ” ما تزال قريبة جدّا من وجداني وهي الأقرب إلى القرّاء وخاصّة تلامذة المدارس الثانويّة.. حين أعلن وقتها عن المسابقة تردّدت كثيرا.. وفي النهاية جلست في مقهى يقبل عليه الأدباء والشعراء تسمّى “مقهى المغرب ” في باب البحر. جلست وكتبت يوميّا بسرعة قصوى حتى لا يفوتني موعد المشاركة في المسابقة.. حصلت على الجائزة ولكن لم أكن سعيدا كثيرا لأنّها الجائزة الثانية وليست الأولى، لكن للرّوايات حظوظا فقد اشتهرت ” الزّيتون لا يموت” الى يومنا هذا وكثيرا ما استدعى في المعاهد الثانويّة لأواجه أسئلة التلاميذ والأساتذة.. ولقد نشرت بعد ذلك روايات عديدة لكن لم تستطع أيّ منها أن تصرف اهتمام القراء عن “الزيتون لا يموت” .. ويتذكّر القرّاء والأساتذة والأدباء مجموعتي القصصيّة الأولى ” صلعاء يا حبيبتي ” التي نشرت في زمن متقارب جدّا مع ” الزيتون لا يموت ” أكثر ممّا يتذكرون المجموعات الأخرى.
الآن لا يسعدني صدور رواية ولا يحزنني تعطّل أخرى عن الصّدور.. لقد استوى الماء والخشب وأنت سيّد العارفين
- ما حكاية هذا الحضور للمكان الواقعي في أغلبية عناوينك القصصية والروائية ” باب ، زقاق، ساحة ، سطوح ، الحوش ، حي … ” ؟
هل هناك مهرب من الواقع ! هل تراني أتخيّل أمكنة وهميّة وشخصيّات افتراضيّة وقضايا مجتمعات لا تمدّ لمجتمعنا بصلة.!
أنا لا أبحث عن مدرسة أو اتّجاه، أو نوع إنّما همّي الأوّل أن لا أخرج من جلدي، أن لا أبرح الأمكنة التي تنقّلت فيها والمدن والقرى والأرياف التي قضّيت فيها مراحل من العمر.. حيّ باب سويقة وحيّ باب المنارة وحيّ باب سعدون وشارع الحبيب بورقيبة وشارع باريس وشارع الحرّية حيث مقرّ الإذاعة الحاليّ والتلفزة سابقا أين عملت بعض الوقت، استوحيت منها، روايتي الثانية ” صاحبة الجلالة “.. أنا من أصل ريفيّ والأحواش تعمر الأرياف وأسرتنا عاشت في فضاء الحوش .. أمّا عن الأزقّة فكم آويت إليها وكم تنفّست هواءها، وكم عايشت ساكنيها وكلّها تضطرم في وجداني.. عن أيّ شيء سأكتب إذا لم أعد صياغة الأحداث والصّراعات في كتاباتي وأتنقّل في الزمان والمكان اللذين هما دمي ونبضي.
- تكتب الناقدة نائلة الشقراوي أنك أعدت مجد الرواية الواقعيّة دون حاجة لتضخيم قدراته بالسلوكات المتخيلة واللغة المعقّدة، ما تعليقك؟
شكرا جزيلا للنّاقدة نائلة الشقراوي فلها أراء حصيفة في الأعمال السردية من خلال قراءة متأنّية ومعمّقة.. قد أكون أعدت للرواية الواقعيّة مجدها لكن دون أن أخطّط لذلك.. ودون أن أجلس يوما لأفكّر في النّوع الذي أتّخذه حتى أفرض نفسي وأدبي في السّاحة الأدبيّة .. كنت أقرأ وأكتب فقط.. أقرأ أكثر مما أكتب وأكتب لأنّ الإحساس المرهف بالأحداث – ما حدث ويحدث – يؤرّقني فأترجم ذلك الإحساس إلى نصّ أدبيّ، ليس الذي يختار هو عقلي ومجموعة ما قرأت من كتابات شرقيّة وغربيّة، وليس الإحساس وليست المعاناة.. وليس رأي الآخرين سلبا أو إيجابا. وإنّما كلّ هذه المكوّنات جميعا.. أكتب وكأنّني أرسم على الورق نبض قلبي وتدفّق دمي في عروقي..
- رواية ” حي باب سويقة “توثيق لاحتدام الصراع الحكوميّ والنقابيّ في نهاية العهد البورقيبيّ ؟ عطفا على ما سبق أين يمكن إدراج هذه الرواية ضمن الرواية التاريخيّة أم السياسيّة ؟
رواية ” باب سويقة” ليست تاريخيّة ” ثلاث روايات فقط من بين مجموعة الروايات التي نشرتها وهي عديدة، يمكن نسبتها الى النّوع التاريخــــــــيّ.. هي على التوالي ” الزيتون لا يموت- جنان بنت الريّ – مملكة باردو – ذلك لأنّ أحداثها وشخصياتها تنتمي إلى زمن بعيد لم أعشه وإنّما قرأت عنه.. أمّا ” حيّ باب سويقة” فإنّني عشت بعض أحداثها وتأثّرت بها وخفق قلبي بما خفقت به قلوب الآخرين من أبناء الوطن.. إنّنا إذا ما أردنا أن نتعمّق في هذا الأمر فبإمكاني القول إن كلّ حدث نعيشه فرحا أو حزنا، يصبح من الغد وقد طويت صفحته جزءا من تاريخ.. كلّ الرّوايات التي كتبتها ونشرتها ابتداء من السّبعينات إلى أيّامنا هذه لم تعد تعكس هموم الحاضر وارهاصاته لأنّ المجتمعات تتغيّر بسرعة بفعل الأحداث السياسيّة والقوانين وتقلّب الحكومات والأنظمة خاصّة أنّ كلّ حاكم عربيّ يعمد إلى تغيير الواقع رأسا على عقب لمصالحه ومصالح حزبه وأسرته.
- أريدك أن تحدّث القراء عن روايتك “من قتل شكري بلعيد”؟ كيف اتّقدت ؟ ومن الذي ساهم في إيقادها؟
كيف اتّقدت؟ من تلقاء نفسها يا سيّدي ، إنّ الكاتب يعيش محرقة الأحداث وهي تسبّب له أوجاعا وآلاما أكثر ممّا تسبّبه للآخرين، فالحسّ الاجتماعي والوطنيّ الذي يلازم الكاتب المبدع في حلّه وترحاله هو الذي يفجّر الكتابة.. أليست الكتابة في البداية والنّهاية هي ردّ فعل إزاء ما يجري على السّاحة.. وما جرى خلال ما سمّي بالثورات العربيّة وخاصّة في بلدنا، ثمّ ما جرى بعد ذلك من فوضى سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة واغتيالات لرموز النّضال السياسيّ من أجل الاستفراد بالحكم.. ما جرى من أحداث وما آلت إليه الثورة من إحباطات وخيبات متتالية هو الذي أوقد الرّغبة في الكتابة تعبيرا عن موقف وتسجيلا لأحداث دمويّة طبعت الحياة الإجتماعيّة وفتحت في النّسيج الاجتماعيّ جروحا قد تظلّ نازفة لسنوات وعقود.
- هل يحدث أن تمارس مع قصصك ورواياتك سلطة الأب والرقيب ؟ وما هي الرواية التي لم تكتبها؟
. لا أب ولا رقابة ولا سلطة.. كيف أمارس السلطة وأنا لا أخطّط للكتابة ولا أرسم أحداثا ولا ملامح شخصيات ولا قضايا..إنّني أكاد أنطلق من لا شيء.. من إحساس، من خزّان أحاسيس تحتدم في داخلي فأشرع في الكتابة بنسق جنونيّ أحيانا حتى أنّي لا أدري ما كتبت ولا كيف أتت الشّخصيات واتّخذت مكانها في نسيج الأحداث.. الشخصيات تتوالد من بعضها والأحداث كذلك وحتّى القضايا الرّئيسيّة والفرعيّة.. لقد قلت مرارا إنّني أمارس كتابة متوحّشة على عكس الطرق والأساليب المعتمدة في الكتابة.. أمّا الرّواية التي لم أكتبها بعد فقد لا أكتبها أبدا.