عبث.. انتظار ورجل عجوز

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

"نحن نعيش من قلة الموت " مغامرة رأس المملوك جابر – سعد الله ونوس

مشهد البداية

يحيى : جلستنا حمراء اللون, هل من تجربة جديدة تنشط خمولنا ؟

أنا : علينا أن نجد لحيواتنا أسحارا تملؤها كى لا نموت مللا, ماذا عسانا أن نفعل؟؟

يحيى : لقد جربنا كل شئ.

إسماعيل : سفر؟؟ نساء؟؟ جنس؟؟ خمر؟؟ رقص؟؟

أنا : حتى كل أنواع الجنون, خضناها.

يحيي : انتحلنا شخصيات وسرقنا من باب الفضول, جالسنا القتلة والمجرمين, وجربنا كل ألوان المتعة, الحرام منها قبل الحلال. تعلمنا قيادة الطائرات وطرنا بالشراعيات الصغيرة من مطار إمبابة, صادقنا العاهرات والقديسات, ترددنا على الملاهى وعلى المساجد.

إسماعيل : لقد وصل بى الأمر أن خطبت خطبة الجمعة بمسجد صغير, زاوية, غنيت فى حفلات أصدقائى, مثلت فى بعض الأفلام, سببت المخرج وركلت البطل فى بطنه وقبلت البطلة قبلة حارة… خرجت فى مظاهرة عمالية وتكلمت بالسياسة وهتفت بصوتى عاليا. تسلقت سانت كاترين وقابلت كاترين. داعبت القمر وخاطبت النجوم وسكنت السحب وخاصمت الشمس, كل شئ بالحياة فعلته .

أنا : لقد استنفدت الحياة معانيها ومتعها لى.

يحيى : مازلنا شبابا

أنا : سألوا رجلا عجوزا تعدى سنواته التسعين عن رأيه بالحياة, فقال لهم أنه لم ينته منها بعد حتى يسألوه عنها….

يحيى : جلستنا حمراء اللون… علينا أن نجرب شيئا ما ( ينفث فى وجهنا من دخانه)

إسماعيل : لقد تذوقنا من كل شراب رشفة.

يحيى : أتعلمون ما الشئ الوحيد الذى لم نجربه فعلا ولا نعرف له طعما, ولم يأتنا أحد بأخباره؟؟

إسماعيل : ما هو؟

يحيى : الموت… هذا الخوف الأبدى. هل جربه أحدكم من قبل؟؟ ( صمتنا وتسمرنا بأماكننا ) إنقباضة القلب الأخيرة وضخة الدم الضعيفة قبل توقفها… الاحتجاز بحجرة أصغر من أسانسير عمارة متهالكة بوسط البلد

 

انقبض قلبى عندما بدأ يحيى فى سرد خيالاته الجنائزية, وانتفض إسماعيل من كرسيه صارخا: ما هذا النقاش المؤلم … فلتغير الموضوع, اقتراحات أخرى ؟؟

بدأت فى ترقب ضربات قلبى المضطربة, اشتدت وتيرتها وقوت ضرباتها وتوالت كسلسلة من الطلقات النارية.. استمر يحيى فى كلامه رغما عن صمتى وعن غضب إسماعيل… تملك يحيى شيطان ليلى أخرق, داعب أفكاره وعبث بتلافيف مخه وأخذ يعبث بعقولنا نحن الآخرين

يحيى: أنتم تخافون من مصير محتم, علينا أن نستعد له بأن نتذوق رشفة منه هو الآخر… أتعلمون؟؟ أود أن أدفن بين أجساد النساء اللاتى عرفتهن طوال حياتى, سواء أحببتهن, ضاجعتهن, أو حتى اشتهيتهن, وأن يتأرجح جسدى بين منعطفات أجسادهن اللينة, أظن أن الموت سيكون جميلا بهذا الحال. هاأنت يا إسماعيل  قضيت عمرك كله تعلن لمحبوباتك أنك تموت حبا, والآن لم تحتمل فكرة أن نذكر الموت جديا.

لم يحتمل إسماعيل تأملات يحيى وتجلياته وهاجمه بصوته العالى, كان صوت إسماعيل يصاب بنبرة نسائية شاذة عندما يعلو فوق معدل معين: اللعنة عليك وعلى الموت وعلى هذه السهرة … ماذا بك اليوم؟؟ ما هذا الهراء الذى تردده؟؟؟

لم أحبب الفكرة بأول الأمر, كما أننى لم أفهمها, كيف يظن أننا قد نجرب دربا من دروب الموت ونعود منه سالمين … لكن أسلوب يحيى, الذى طالما أسرنى, تملك من أفكارى وتلاعب ببقايا عقلى. فخرجت من صمت تغمدنى لفترة طويلة بجلستنا الحمراء وقاطعت يحيى سائلا: ماهى إذن ماهية التجربة المزعومة؟؟

طفت على وجهه علامات الاستبشار ببدايات الاقتناع ونطقت ملامحه بحماس وفرحة شديدتين .. كان يحيي يهوى القيادة, ويفرح باقناعه إيانا بأكثر الأفكار غباء.

يحيى : هل تعلم أن البعض يدعون أنهم قد ذهبوا إلى هذا العالم الآخر ولامسوه وتذوقوا من مائه… أود أن أذوق أحضان النساء التى سأدفن بينهن.

لم أفهم منه شيئا محددا, مجرد كلام مبهم عن حيوات أخرى … غضب إسماعيل من إنصاتى المنتبه وقام من فوق كرسيه قاذفا إياى بكوب بلاستيكى.

إسماعيل : ( إلى يحيى ) لقد أفسدت الليلة بأفكارك المقززة ( وهم خارجا ).

يحيى : توقف يا إسماعيل, أنت لست مجبرا على فعل أى شئ من تلك الأفكار المقززة , هروبك بهذا الشكل دلالة خوف وفزع

 توقف إسماعيل ثم عاد إلى كرسيه وجلس على العلامة التى تركتها مؤخرته على سطح الكرسى.

إسماعيل : أنت طفل عابث, تعبث بالكلمات وأنت لا تملك أية فكرة ذات قيمة.

يحيى : التجربة سر كل المتع.

أنا : وما المقترحات الآن ؟

إسماعيل : كى نموت ؟؟!

يحيى : كى نجرب شعورا سنذوقه حتما بيوم ما.

إسماعيل : أنا لن أشارك أيا كان اقتراحك.

يحيي : عليك أن تسمعنى أولا

إسماعيل : لن أشارك, وإن أستمررت فى هذا الجدال, سأترك لكم سهرتكم السوداء.

أنا : فلنختصر الكلام … ما اقتراحات ليلتنا الحمراء؟

يحيى : ليس لدى أقتراح محدد.

اسماعيل : ألم أقل لك إنه مجرد عابث ممل.

يحيى : ولكن قد نتناقش.

اسماعيل : بماذا؟؟

يحيى : فهناك أجزاء من الموت لا يمكن تجربتها, كتجربة سحب الروح من الجسد… أما عن ذهاب العقل فقد خضنا تلك التجربة كثيرا بحياتنا… ويمكننا أيضا أن نخوض تجربة الحساب.

اسماعيل : سنفشل حتما .

أنا : أو تجربة العزلة التى سنعيشها لسنين.

اسماعيل : تقصد نموتها !!

أنا : أقصد العزلة حتى نبلغ هذا الحساب. المكان الضيق المظلم الخالى من الزمن ومن الأحداث.

يحيى : تلك فكرة عبقرية فعلا.

اسماعيل : مجانين.

يحيى : ما رأيكم بأن نحيا يومين بين جدران قبر مغلق!!

اسماعيل : ماذا تقول يا أهبل ؟؟

يحيي : لدى مفاتيح قبور عائلتنا.

أنا : نفتحها ليلا ونتسلل إليها.

يحيى : نصطحب ما يكفينا من طعام و شراب .

أنا : لا نقود

يحيى : لا أخبار

أنا : لا راديو… لا تليفزيون … لا كمبيوتر.

يحيى : لا ساعات.

أنا : لا زمن.

يحيى : لا اتصالات .. لا تليفونات

أنا : لا نساء.

يحيى : مجرد بعض الصور.

أنا : أو الخيالات.

يحيى : لا شمس.. لا قمر.. لا حركة… لاشئ.

أنا : ونترك مفاتيح القبر مع اسماعيل.

يحيى : يفتح لنا بعد يومين بالضبط من لحظة دفننا.

أنا : بل ثلاثة.

يحيى : نذوق طعم تلك الغربة.

أنا : حياة مغايرة.

يحيى : الحياة الأخرى.

أنا: ولا تخبر أحدا بما فعلناه يا اسماعيل.

يحيى : سنختبر جزءا آخر من التجربة.

أنا : أجل, سنعلم كيف سيتعامل باقى الأحياء منكم بأمر موتنا.

يحيى : من سيسبنا ومن سيمدحنا.

أنا : من سيغازل امرأتى.

يحيى : ومن من النساء سيحزن لفقدانى.

أنا : هل سينشرون نعيا كبيرا بالأهرام؟؟

يحيى : هل يلحق أحد بى إلى الدنيا الأخرى؟؟

 إسماعيل : هل أنتم جادون حقا فيما تقولون؟؟

يحيى : سآتى بالمفاتيح من غرفتى ونصطحبك إلى القبور, تدفننا وتغلق الباب جيدا  ولا تفتحه إلا بعد مرور يومين من الآن.

أنا : بل ثلاثة .

اسماعيل : لا تنسوا أمر المؤن.

أنا : سآتى بها من بيتنا.

يحيى : اذهب وأحضر المؤن وسأنتظرك بأول الشارع.

 

مشهد النهاية

 يحيى : الحقير.

أنا : شئ ما حدث.

يحيى : كم يوم تظن قد مر بنا؟

أنا : ما لا يقل عن خمسة أيام.

يحيى : هل لدينا طعام؟

أنا : لا .. انتهى منذ اخر مرة تناولنا بها الطعام منذ ساعات .

يحيى : أشعر وكأنه منذ أيام … ولكن لازال معنا بعض الماء؟

أنا : القليل منه.

يحيى : لماذا تظن اسماعيل لم يأت لينقذنا ؟؟

أنا : أخشى أننى لا أجد سوى احتمل واحد.

يحيى : وهو؟

أنا : أنه قد سبقنا للموت.

يحيى : لا… لا … بعد الشر … لا أظن .

أنا : لا أظنك تخشى على حياته قدر خوفك على حيواتنا.

يحيى : لا أعرف.

أنا : إذن ماذا تظن؟؟ ما الذى منعه عنا؟؟ 

يحيى : لا أعرف.

أين كلام يحيى الذى لا يتوقف ونظرياته المختلقة المتعاقبة؟؟

أنا : بالتأكيد لم ينس.

يحيى : و لم يتناس.

أنا : ولا هى لعبة من ألاعيبه.

يحيى : لم يمنعه عنا دور برد أو مغص كلوى.

أنا : لن يتركنا لنموت لأى سبب إلا أنه سبقنا.

يحيى : للأسف, أظنك على حق.

أنا : أنا جائع

يحيى : لم تخفف عنى أجساد النساء عذاب نومتى هنا.

أنا : وعطشان.

يحيى : ظننت أنهن سيؤنسن وحدتى.

أنا : ولكنى أخشى أن أشرب وأقضى على ما تبقى لنا من قطرات.

يحيى : النساء لا يفدن أبدا!!

أنا : أنت من ألقيت بنا إلى هنا ؟؟ الذنب كله ذنبك.. كان إسماعيل على حق.. لم يكن يجب علينا أن نجرب شيئا كهذا أبدا … كله بسببك.

يحيى : الآن تحملنى المسئولية .. ألا تتذكر كلامك بأول أيامنا هنا, عن عبقرية التجربة وكم هى فريدة وأننا سنظل نذكرها مادامت بنا الحياة, وقد تنشرها الصحف والمجلات وتستضيفنا البرامج الليلية بمصر, بل وبأمريكا … نسيت كلامك عن الرجل العجوز الذى سئل عن رأيه بالحياة فقال لا تسألونى أنا لم أنته منها بعد.

أنا : كنت مخطئا, والآن أيقنت مدى سذاجة أفكارك ومن بعدها أفكارى… لقد أنهيناها بأيدينا… لا بد أن الرجل العجوز لم يفعل مثلنا.

يحيى : إذن فلنمت.

أنا : التجربة انقلبت حقيقة… السحر انقلب على الساحر.

يحيى : حتى على اسماعيل, حارس التجربة.

أنا : هل نعتبر منتحرين؟؟

يحيى : الموت عطشا موت أليم.

أنا : ألا تذكر أكثم, هذا الرجل الذى صمد أحد عشر يوما تحت أنقاض منزله بعد زلزال 92 .

يحيى : كان يشرب بوله.

أنا : نحن مازلنا فى حال أفضل منه.

يحيى : الله كان معه.

أنا : ألن يكون معنا؟؟

يحيى : أنت أقرب إليه من أى وقت مضى… أسأله.

أنا : ألن يقيموا لنا مأتما وجنازة ونعيا وخبرا بالجريدة الرسمية؟

يحيى : نحن مفقودان ولسنا موتى بعد.

أنا : وسنظل كذلك فى نظرهم لسنين.

يحيى : حتى يموت أحد أقاربى ويفتحون هذا القبر ويجدوننا هاهنا.

أنا : وهل أحدهم قريب من الموت؟؟

يحيى : فلتسأل عزرائيل.. إنه يحوم بالمكان.

أنا : أنا لا أمزح الآن, هل منهم من اقترب من الموت؟؟

يحيى : ومن الذى كان يظن أننى قريب منه!!

أنا : هل تذكر تلك القصة التى حكيت لنا فى صغرنا عن الملكين اللذين أنزلا إلى الأرض؟؟

يحيى : أية قصة ؟؟

أنا : قصة, حكيت لى عندما كنت طفلا, لا أعلم مدى صدقها ولكنى أحبها, عن ملكين تمردا واعترضا على تفضيل الله لبنى البشر وأنهما لو نزلا الأرض لما اقترفا أيا من الذنوب التى يرتكبها بنو البشر.

يحيى : آها … تذكرتها, عندما أنزلهم الله الأرض فأتوا الذنوب جميعا من أصغرها إلى أكبرها فعذبهم بأن علقهم فى صحراء مهجورة, لا أرض هى ولا سماء.

أنا : ألا تذكرك بوضعنا؟؟

يحيى : لا أعلم … أعتقد أنه لطالما كان وضعنا.

( صمت مهيب)

يحيى : سأرسم محبوباتى على جدران المكان ليؤنسن وحدتى.

أنا : أنت لا تجيد الرسم.

يحيى : لا يهم.

أنا : ليس لديك ما ترسم به.

يحيى : اللعنة.

(صمت أكثر هيبة )

يحيى : ماذا سنفعل فيما تبقى لنا من وقت؟؟

أنا : سننتظر

يحيى : ننتظر ماذا ؟

أنا : أى شئ… إسماعيل, عزرائيل, سواء سيأتينا نحن أم سيأتى أحد أقاربك فينقذنا … أيهما أسبق.

يحيى : بيده أن يميتنا وبيده أن ينقذنا.

أنا : لا نجيد أن نفعل شيئا مثل إجادتنا فعله.

يحيى : ما هذا؟

أنا : الانتظار.

يحيى : وبالرغم من هذا, لم ننتظر حتى يأتينا بنفسه وذهبنا إليه مسرعين.

أنا : حتى فننا الوحيد, فشلنا فيه.

يحيى : هل انتظر الرجل العجوز؟

أنا : كثيرا.

يحيى : وماذا وجد ؟

أنا : مزيدا من الانتظار.

يحيى : هل من نهاية؟؟

أنا : لا نور هنا… لا أرى.

يحيى : أنا أيضا لا أرى.

أنا : سواء كنا على السطح أو هنا, ليس بحوزتنا سوى الانتظار.

يحيى : هل من نهاية؟؟

 

 

(يغلق الستار ثم يفتح من جديد فنجدهما على نفس وضعيهما ونفس جلستيهما ثم يغلق الستار)

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال