عائلة جادو- في اكتشاف ماكينة الوهم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

"لأني أعرف أن ما يحمينا هو الإخلاص لماكينة الوهم، لا أحد منا قادر على تكلفة خرقها، مولانا لا يرحم".

بتلك الجملة في رواية عائلة جادو للروائي أحمد الفخراني، والصادرة مؤخرًا عن دار العين للنشر؛ يلخص رزق بن نخنوخ رؤيته للعالم من حوله، “فالكل يعلم، ولا أحد يتكلم“.

يخوض رزق -وهو الابن غير الشرعي لمولانا نخنوخ- رحلة تحت وهم الخلاص، وتحت أكثر من تأثير وبتكليف من مولانا وآخر من صهره أسعد جادو، رحلة تهدف إلى العثور على كارل ماركس وقتله؛ للقضاء على حلم الماركسية، المتمثل في التجمع من بعد الشتات الماركسي. رحلة يلتقي فيها بتروتيسكيين يرتدون قميص دم تروتسكي، ويلطمون في كربلائية، وعندما تسنح فيها فرصة القيادة لتروتسكي؛ يرتدي عباءة ستالين ويتحول إلى جزار دموي.

وخلال خمسة فصول: (التكوين، الشتات، الخروج، الكميونة، وادي الفناء) يواجه رزق خلالها قدره الصعب، والذي يشبه مهمات التوبة الإثنى عشر لهرقل في الميثولوجيا اليونانية؛ حيث الخروج يبدأ بالدياليكتيك، والفناء هو الوصول إلى شجرة المعرفة في وادي رقائق السيليكون.

وفي عالم تقبض عليه يد مولانا، وتديره وتتلاعب به في ماكينة الرأسمالية. يحاول رزق العثور على منفذ إلى خارج تلك السطوة؛ مدخرًا لسرقاته من خلف ظهر الأب نخنوخ، في سبيل فرصة لعيشة هائنة وبعيدة عن مولانا، بصحبة الزوجة والابن. بينما يتعذب رزق بعدم اعتراف الأب بالبنوة، بالرغم من اعترافه الضمني بموهبة رزق في اكتشاف الندرة، تلك الموهبة التي تجعل نخنوخ يتراجع عن التخلص من رزق في زمنٍ ماضٍ، ثم يتخذ منه عبدًا مقربًا، وأداة تسمح بتحقيق المزيد من المكاسب.

رزق هو المطرود من جنة نخنوخ، وهو النقيض للابن الشرعي ناجي. ومهما أذله وأهانه نخنوخ؛ إلا أن العبد رزق لا ييأس من رحمة مولانا، ولا ينقطع عن الرجاء للنزول من فوق الصليب “يا أبي. نجني. لن تقبل بهلاك ولدك“. ولكنها ترتد بالخذلان “لا قيمة لي يا مولانا. هكذا سهل عليك دهسي. لا أمل في حنان أو أبوه”.

يلهث رزق مع الآخرين خلف غزال المتعة؛ وهو الغزال الذي يقدمه ماركس ويلخصه لافارج في أحقية الكسل، وهو الغزال التي تعد به ماكينة الرأسمالية والأديان السماوية بعد المعافرة والعمل. هو جائزة الرأسمالية للترس الصغير، بعدما يؤدي دوره بالإخلاص في ماكينة الوهم. الكل يريد غزال المتعة على طريقته الخاصة. وبينما يحاول ماركس إيجاده دون مشقة أو تلاعب، فإن الديانات والرأسمالية تعلقه كالجزرة؛ لدفع الراكضين في ماكينة الوهم. ولا تؤدي المشقة إلى عثور رزق على الغزال، بل إن فردوس هي ما تمنحه سر تطويع الغزال، عندما يعامل رزق متعته كندٍّ، وليس كأداة يأسرها ويتحكم فيها.

وحتى في قتل رزق لعائلته، عائلة جادو. فإن قتل العائلة يحضر -تاريخيًا- بأشكال وطرق أخرى، ولأسباب مختلفة. هو القتل بالإهمال في سبيل حلم أكبر بالخلاص، كما فعل ماركس نفسه، في استقامة بين حياته وبين اعتقاده. أو كما ساهمت طاحونة العمل الرأسمالية في سبيل وعد مؤجل بثراء أو بخلود. وكما قتل نخنوخ -نفسه- العائلة من أجل خلود العائلة، ومنح المفتاح لابنه رزق في النهاية: “ألا يفعل ملايين الآباء هذا كل يوم، يضحون بكرامتهم من أجل أمل بعيد بأن يروا في أبنائهم مالم يستطيعوا تحقيقه“. أو قتل العائلة في سبيل التضحية الدينية نحو طريق الإيمان. وهو -أيضا- القتل لجينات وأراء مفروضة مسبقًا من العائلة؛ حيث يصبح رزق بن نخنوخ كيس صفن فارغ، بعيون خاوية، عيون لا تطل منها إلا نظرات عائلته التي يحملها ويحمل آمالها ورؤيتها. ويصبح قتل العائلة هو خلود من نوع آخر؛ خلود لاستقلال الفرد بعيدًا عن قيود مسبقة ومصائر مرسومة.

وبينما يطل وحش الرأسمالية ليطوع من الغريم الماركسي ما يريد وما ينتفع به داخل الماكينة الداهسة (وكما يحكي رزق عن الأميركي الذي باع كتاب رأس المال لمدراء المصارف، على أنه طريقة لجمع الثروة)، إلا أن الماركسية قادرة على إيجاد ثقوب في الجسد المترهل؛ حيث يوجه رزق بن نخنوخ سؤالًا لرفيق رحلته ماركس عن مصير نخنوخ: «أما زلت حقا تتمسك بالفكرة البالية أن انتصاره التام يخلق موته؟ أتظنه بتلك السذاجة؟». ويرى رزق التماثل بين نخنوخ وبين ماركس: «مع كل كر وفر، هزيمة وانتصار، تتماثلان أكثر».

وفي حين تطمح الماركسية إلى شيوع المعرفة، ويحكي نخنوخ عن “حاشية حول الآلات” حيث القوة المستقبلية بعيدة عن محاولات السيطرة على العمالة، وتتلخص في تسخير الألة والمعرفة التي تهب الخلود (السيبورغ)، فإن تضخم الرأسمالية خلال محاولات احتكار المعرفة، وطريقتها المستنزفة لتحقيق الأرباح بأقل مصاريف، تنفلت وتتحول إلى شيوع ممتد على المحتوى الانترنتي. وحيث تتحقق رؤية ماركس (رفيق رحلة رزق) عن موت مولانا الملازم للانتصار التام.

تدفع الألة رزق لطريق مرسوم؛ قدره. وحتى محاولات تمرده لا تخرج عن السياق المعد من مولانا. فلا السرقات بغرض الهرب تنفعه، ولا حتى رفضه الأخلاقي لقتل الآخرين داخل الكولوسيوم الروماني؛ مفضلًا تقديم عرض لبراغيث عن قتل المنافسين في ماكينة الوهم، داخل سباق الفئران المرعب. يحارب رزق للنجاة داخل كولوسيوم الاستعراض الرأسمالي، الذي يشترط الإزاحة بالقتل، بالتخلص من المنافسين بأي طريقة لإثبات جدارة، فالقتل لا يحتاج إلى قوة أو إلى سبب منطقي. أرواح تزهق في سبيل متعة سادة قديمًا، وهي أيضًا نفوس تعذب وتجلد حتى الموت بالتنافس تحت سيف العمل والشقاء في سبيل جزرة لأفواه جائعة، وفي سبيل ثروات تتكون للسادة الجدد. وكما تصفهم أم رزق (المقتولة والذاكرة المنتهية المستبعدة)؛ فهم سادة تستبدل بسادة آخرين.

وكما يردد رزق وماركس مونولوج هاملت الشهير «فمن ذا الذي يتحمل الأعباء الفادحة، في حياة شاقة كلها أنين وعرق يتصبب». الشقاء الذي يحمله رزق في لوعة السؤال «ربنا ما خلقت هذا باطلًا؟». وهو نفس الشقاء الذي ألهم ماركس قصيدة البكر الشاحب لونها، فيقول: «وروحي ما إن أخلصت لله، حتى اصطفاها للجحيم».

مقالات من نفس القسم