عبد الهادي المهادي*
شرقَ بحر الروم، والإمبراطورية في أوج عنفوان قوّتها، بين أشجار البرتقال المُطلّة على بلدة صغيرة شبه مجهولة تُسمّى بيت لحم، ظهرت ذات صباح ربيعيّ امرأة شابة قادمة من النّاحية التي تُشرف على النّاصرة، بدا وكأنّها خائفة من شيء، أو هاربة من شيء، كانت وحيدة وعلامات الحمل بادية عليها بجلاء. جميلة كانت، وأنيقة، وسيماء الكرامة والوقار يعلوان محيّاها مُعفّرا بحزن عميق لا تُخطئه العين.
كانت تجرّ قدميها في تعب، وتتّكئ على غصن زيتون برّي. ورغم أنّها كانت تلبس أسمالا بالية ومتّسخة، فقد كانت هيأتها تفرض على النّاظر مُطلقَ التّبجيل؛ شيء ما كان فيها غريبا جعلها لا تشبه كلّ النّساء التي سبق وأن رآهن راعي غنم البلدة، وسيعرف بعد ذلك بسنوات أنّ ذلك كان عبارة عن هالة من شعاع يُحيط بها، واعتقد صباحئذ أنها مجرد خيوط شمس تخلّلت أسمالها.
دخلت البلدة عند الشروق، وكان شروقا أسطوريا كما سيتذكّر الرّاعي الذي رآها قادمة من خلف التّلة المُخضرّة. سيحكي، بعد ذلك الصبح بأعوام، كيف طلعت الشّمس راقصة في الأفق بين الجبال، وهو يقسم بأغلظ الأيمان وبالطلاق، أنّها تجسّدت أمامه مَلكا بهيّا يُعمي جماله العين، حتّى أنّه اضطرّ لإغلاق عينيه مدّة قصيرة خوفا من ذهاب بصره، وأثناء ذلك سمع هاتفا يُبشّره بأمر، لم يتأكّد من ماهيته من شدّة المفاجأة، لأنّه ـ كما أسرّت له الشمس ـ كان أوّل من سقطت عيناه عليها خلال هذا الصّباح، وهو مشهد، كما أكدّ الهاتف، لا يتكرّر في الزّمن سوى مرات قليلة.
هشّ على غنمه سريعا، وأوصلها إلى حقل بَشُوشٍ بالعشب، وعاد مُهرولا ليراقب المشهدَ والمرأة، فتفاصيل حياته اليومية المتكرّرة جعلته مُتيقّظا أمام كلّ مشهد مختلف، ولكنّه وجد كل شيء أمامه عاديا وساكنا، وحدها البرودة هي التي ازدادت قليلا بسبب ضباب خفيف حلّ بالأرجاء.
أسرع إلى تلّة، ومسح من فوقها الجهات الأربع بعينيه الحادّتين، ولكنّ الصّمت كان شاملا، حتى صياح الديكة توقّف، لا شيء يُحيط به سوى السّكون، ولا حتّى حفيف أسراب الطيور التي تعوّد مرورها في مثل هذه الأوقات من كل صباح. جلس على صخرة أسفل شجرة تين مُعمّرة وهو يحكّ رأسه، وأعاد التفكير بهدوء في كلّ ما شاهده، كاد يقتنع بمخاوف زارته مرات حول سلامة عقله، فقد كان كثير الرّؤى والمُشاهدات، ولكنّ روحه كانت صافية إلى حدّ أن طردت كلّ تلك المخاوف.
نزل عند غنمه، وافترش الأرض ليتناول وجبة فطوره؛ كانت زوجته قد أعدّت له قِرابا يحتوي زيتا وزيتونا وبعض الجبن، وملأت له يقطينة مجفّفة بماء النّبع الذي يُحبّه. كانت شياهه مشغولة باختيار ما تشتهيه من أعشاب، فقد صارت الأرض مُخضرّة شهيّة، وكانت تقدّم عروضها بسخاء، وتنفح خيراتها بأريحية جَدّةٍ مُعمّرة.
عزف بِنايِهِ أغنيةً مرحةً سمعها البارحة من عجوز مُحبّة للدّعابة؛ كانت كلمات الأغنية موجّهة لشاب أغرم سَماعا بجمال صبيّة خبّأها والدها دونَ شراهةِ عيونِ الشباب المتلصّصة؛ فالأغنية تكشف له ما سُتر عنه وُخبّئ.
أحسّ فجأة بنُعاس غَلبَه فلم يُغالبْه؛ كان قد سهر إلى آخر الليل في عقيقة أحد جيرانه، وهناك وصلته كلمات الأغنية ولحنها وهو ينهي آخر رشفة من كأس شايه.
استيقظ على نباح كلبه، لم يدر كم استغرق في النوم، ولكنّ نظرة خاطفة إلى الشمس التي اقتربت من كبد السماء أخبرته بأنه أخذ كفايته من الراحة. كان الأمان مسيطرا على هذه الربوع؛ فالذئاب ما عادت تتجرّأ على الاقتراب من البلدة، بعد أن نظم أهلها حملة لإرهابها وإبعادها عن هذه الحقول.
تحسّس حنجرته، وأحسّ بجفاف يكاد يحرقه. عبّ سريعا ما تبقى في قارورته، ثمّ خطا نحو أغنامه وهو يفرك عينيه، حينها تذكّر حُلمه القصير الذي شاهده توّا. دمدم بصوت مسموع: “حُلمٌ مرّة أخرى”! رأى وكأنّه في صحراء قاحلة، والشّمس قريبة من رأسه تَكْوِيهِ، وغزاه شعور بالهلاك؛ فلا أمل يبدو ولو في الأفق البعيد، اقتنع بلا جدوى حركته، فاضطجع مستسلما ووجهه إلى عكس الشمس، وانتظر مَقْدَمَ حتفِه. فجأة، انبثقت كثبان الرمال عن امرأة صبيحة تحمل طفلا حديث الولادة، أرته إيّاه، انبهر بهالته حتى سلبت عقله. تركته ومشت، ثمّ التفتت إليه، وبإشارة من أصبعها دعته كي يتبعها.
حينما وصلت زوجته بالغذاء، كان هائما في الوادي يجمع أغنامه، لقد ملك الحلم نفسه، وملأ روحه، وها هو يتدبّره ويعمل جهده لتفسيره. وعندما جلسا لتناول وجبة بَقُولٍ مخلوط بفول، قصّ عليها رؤياه. لم تزد على تحريك رأسها بينما كانت عيناها مشغولتين بتفقّد الشياه؛ فقد تعوّدت سماع مثل هذه الحكايات منه منذ أن تزوّجها قبل عشرين سنة.
تتذكّر أنها أخذته ذات مساء إلى شيخ البلدة وحكيمها لعلّه يُسبغ عليه مِن بركته فتهجره هذه الأحلام، ولكنّ المنامات خفّت قليلا دون أن تتوقّف.
ما إن انتهى من الحكي حتى أخبرته أنّ شاة ناقصة! أكمل وجبته بهدوء، فليس هناك ما يُخاف منه، “لا بدّ أنها تسرح في مكان قريب”، قال لها بدون مبالاة.
حمل عصاه على كتفه واتّجه نحو مكان قدّر أن غنمته يمكن أن تكون قد بلغته، وفي اللّحظة التي كادت زوجته تختفي فيها خلف الأشجار الكثيفة عائدة إلى البيت بأواني مَلْحُوسَةً، سمعت نداءاته، وحينما التفتت رأته يجري نحوها كالمجنون؛ كانت يده اليسرى ترفع جلبابه إلى فوق ركبتيه، بينما لم تتوقف يده اليمنى عن التّلويح لها ودعوتها للرّجوع.
قادها، وهو يلهث، إلى كهف تُغطّي مدخله أجمة كثيفة، وهناك أشار لها إلى امرأة كانت تحتضن صبيا حديث الولادة. وهناك فقط روى لها سريعا قصّته الصباحية التي ما كان يريد أن يقصّها على أحد، ولكن ها هي حكاية من لحم ودم، قدمت إلى بابه، تعيد الاعتبار له ولمناماته ولحكاياته. نظرت إليه في لوم، ثم اقتربت من المرأة التي كان الإنهاك والهمّ باديين عليها، ومن الكلمات القليلة التي نطقت بها علمت أنها حديثة الوضع، ولكنّ المفاجأة كادت تخرسها عندما لم تجد شيئا مما تُخلّفه الواضعة، لم تُصدّقها في البداية، ولكنّ مُشاهدات زوجها الصباحية، ونبرة الصّدق التي استشفّتها من كلام المرأة أنهيا لديها كلّ شكّ أو ارتياب.
أخرجت الثوب الذي تلفّ فيه الخبز، نفضته قليلا، ثم منحته للأم كي تُدفّئ به طفلها. وقفت تتأمّل المخلوقين بعيني أنثى متعاطفتين خبيرتين، ثمّ أمسكت بتلك الشاة وجلست تحلبها حتى تُغذّيهما بغبوق دافئ. وعندما قطعت الشمس ثلثي السماء كان الموكب الصغير متوجّها نحو النّاصرة، لأنّ المرأة الشابة رفضت الذهاب مع الزوجين إلى قريتهما، وأصرّت على بلوغها بلدتها عند الغروب.
وحينما بدت بيوت القرية واضحة، توقّفت المرأة، وألحّت عليهما في تركها وحيدة والعودة إلى بلدتهما. وحينها فقط ستتذكّر الزوجة أنها لم تتعرّف بعد على اسم الشّابة. “اسمي مريم”، قالت لهما، “وابني سمّيته عيسى” أضافت وهي تتأمّل الصّبي النائم في ودّ عارم.
منحها الرجل اليقطينة، وكان قد ملأها من نبع قريب، ووقفا يُشيّعانها إلى أن غيّبتها التّلة.
انطلقت مريم وهي تحمل في قلبها كربا عظيما لو وُزّع بالتساوي بين كل رجال الدّنيا لأغرق شكيمتهم، وحدهن النساء العفيفات يعرفن شعورها ويُحسنّ التعبير عنه؛ كيف تستطيع الواحدة منهنّ أن تُقدم على أهلها تحمل صبيّا دون أن تكون قد تزوّجت بعد؟ كيف يمكنها أن تقنعهم بأنها بريئة من السّوء الذي سيرمونها به؟ كيف ستشرح لهم بأنها حملت دون أن يقربها رجل لا بزواج ولا بغيره؟ هم لا يمتلكون صفاء روحٍ يسمح لهم بالإيمان بأنّ أمرا ما غير مفهوم ولا معقول حصل لها، وهي نفسها لم تكن لتصدق به إلى أن وجدت نفسها رهينته. كانت تدرك أن قومها لا يؤمنون سوى بما يرونه ويحسبونه ويلمسونه، ومثل هذه الأمور لا يقيمون لها اعتبارا. لقد سبق أن قرأت، في خفاء، مقاطع من كتب دينية قديمة، يوم دخلت الكَنيس رغم كلّ احتجاجات رجال الدّين، أنّ قومها طلبوا من ربّهم، وهم في تيه في الصّحراء زمن نبّيهم الذي أخرجهم من العبودية التي كانوا يرزحون تحتها عند فراعنة مصر، طلبوا استبدال ما كان يُنعم عليهم من طعام وشراب يأتيهم كلّ فجر مع رياح الصباح، بما تُنبته الأرض من بقول وبصل وعدس.
كان قلبها قريبا من الانفلاق، فدون رمي شرفها، وهي ابنة العائلة الشريفة، الموت والهلاك. كانت تسير ببطء تُقدّم الرِّجْل ويؤخّرها القلبُ عندما ظهرت لها نخلة قصيرة يتدلّى من بين سعفها تمر لامع. اتّجهت إليها، واتّكأت على جذعها وهي تردّد بصوت مسموع يقطّع الأكباد:”يا ليتني متّ قبل هذا وكنتُ تُرابا أو شيئا منسيا”. كانت تحسّ بالجوع، وطفلها بدأ يتململ في حضنها، لابدّ أنه يحتاج إلى بعض الحليب. رفعت رأسها إلى حيث التمر، ودقّت بيدها الجذع في وهن، فتساقط التمر في حجرها وعند قدميها. أكلت حبّات منه، وجمعت أخرى تحسّبا للطريق، وعلكت واحدة وجعلت وليدها يمتصّ أصبعها في هناء. وحينها فتح عينيه عن آخرهما، ورسم ابتسامة رقيقة بهية على شفتيه قبل أن يُحدّث والدته بلغة واضحة بيّنة وهي تستمع له في وجوم: “ليس عليك أن تحزني والدتي العزيزة ـ قال لها ـ فما تعتبره ضيقا، سينقلب وُسعا ورحمة وفخرا، فاهنئي، واستمتعي بالتمر، وهذا جدولُ ماءٍ خلفك فاشربي وتوضّئي، فمن أدخلك إلى هذا العسر لا شكّ سيجد لك مخرجا إلى اليسر”.
وهي في الطّريق، سمعت صوتا لذيذا يهتف بها في لطف: “يا مريم النّقية التّقية؛ قُرّي عينا، والزمي الصّمت، ولا تكلّمي أحدا، فقد جعل الله لك مخرجا عالي الكرامة والشرف”. فجأة أحسّت مريم وكأنّ شيئا ثقيلا جدا غادر قلبَها، وانفتح أمام روحِها عالمٌ من الفهم والذوق لم تكن قد عرفته من قبل.
عندما وصلت بلدتها، كانت الشّمس تميل إلى الغروب، وكان الجميع في رحلة العودة إلى بيوتهم ومستقراتهم؛ المسافرون كما الفلاحون كما الرّعاة رفقة مواشيهم. وكانت القرية تضجّ بأصوات صغار الحيوانات وهي تحتفي بلقاء أمهاتها. وكانت النسوة قد أشعلن النار في كوانينهنّ استعدادا لمقدم أزواجهن. بلغت ساحة القرية تمشي مطأطأة الرّأس، وكان جمّ غفير من الناس قد جمعتهم العودة، وقد وقفوا يدردشون قبل أن تفرقهم المسالك.
كان أوّلَ من رآها شيخٌ طاعن في السّن كان صديقا مقربا لوالدها، اتّسعت عيناه عن آخرهما، ووضع كفيه على رأسه وهو يُوَلْوِلُ بصوت رقيق مجروح. التفت الجميع إلى حيث كان يشير، فجمّدتهم الدّهشة.
تحلّق حولها الكبار والصغار، وتنادت النساء، فتركت كلّ واحدة منهنّ ما بيدها، وازدحمت الطرقات الضّيقة بهنّ وهنّ مذهولات، وكان الجميع يردّد ويضرب كفا بكف: “ابنة عمران عادت ومعها طفل صغير”!
تكاتف الجميع على إدانتها قبل أيّ سؤال، وعذّبوها بكلّ ألوان الكلام، ولكنها وقفت وسطهم شامخة كالنّخلة التي أشبعت جَوْعَتَها. وحينما كثر حولها الاتهام، وكانت تنتظر مَقدم الجميع، أشارت بهدوء إلى رضيعها.
تبادلوا النظرات، وغزاهم إحساس مشترك بأنها تستهزئ بهم، وعبّر رئيس كنيسهم عن حيرتهم بأن صرخ في وجهها مستنكرا: “كيف نكلّم صبيّا في المهد لا يزال… أتسخرين منّا يا ابنة عمران”؟
كانت البلدة في هيجان حقيقي، والجميع كان يصرخ ويحتجّ بيديه. رجل واحد وقف في الخلف يراقب الوضع في صمت؛ كان صافي الأذن والقلب، وكانت دموعه تسيل دافئة على خدّيه. تصبّر ينتظر ما كان مستيقنا من حدوثِه؛ أمرٍ خارقٍ يليق بصدق المرأة التي تعرّف عليها في بيت لحم وتبعها في الطريق، سرّا، ليحميها، وقد شاهد كل وقائعها.
فجأة، هدأ الجميع دون إشارة من أحد، كانت الشمس قد استقرّت خلف الأفق، وقد زحف الظلام بكلكله على القرية، وأشعل أحدهم نارا أضاءت المكان وطردت الحشرات التي بدأت تقرصُ الجموع. ومن وسط الحشد انطلق صوتٌ دقيق ثابتٌ قويّ البراءة، انتبه النّاس أن مصدر الصّوت هو الصّبي بين يدي مريم، وقد انطلق يقول وسمعه الجميع: أيها النّاس؛ أنا عبد الله عيسى، اِشهدوا أن الله ربي جعلني نبيا ورسولا، وآتاني كتابا، وجعلني مُباركا في كل زمان وفي كلّ مكان، وجعلني برّا بوالدتي التي اتّهمتموها بالسّوء، وهي مَدينَةٌ لكم باعتذار واجب. أيها النّاس؛ أنا المبعوث فيكم، ومجدّد رسالة أنبيائكم”. ثمّ سكت بنفس البراءة التي بها بَدأ.
بعد سنوات عشر، سيحكي الراعي لأحفاده الذين تحلقوا حوله ذات ليلة شتوية أن الملأ أصابهم ما يشبه الجنون أو المسّ؛ لم يصدّقوا أن صبيا حديث الولادة يمكن أن ينطق ويقول كلاما مثل ذلك الذي قاله. كان يودّ لو يُطيل الرّبّ في عمره حتى يعرف مآلات القصّة ويعيشها، ولكنّ الأجل كان مُقتّرا معه؛ فقد توفيّ بعد يومين من حكيه وهو في الطريق إلى النّاصرة؛ وجدوه مُتّكئا على جذع سنديانة مُعمّرة وهو يحملق في السّماء.
……………………….
* قاصّ من المغرب













