د. سمير محمود
دعونا نردد مع منى حبراس السليمية سؤالها من تكون؟
هي تكتب كما تتكلم، بمنتهى الوضوح والشفافية والصدق، بقلم مداده من القلب، وحروفه من منابع الذاكرة الصافية، التي تشبه سماء عُمان وطبيعتها البكر، تنبش في ذاكرة حية وتغترف من نبع تجارب رائقة صافية ككل عيون عُمان وأفلاجها، لتوثق بعفوية وعمق سيرة تنضج على مهل، وتجربة حياة تنبض بالحب.
في كتابها “ظل يسقط على الجدار” الصادر عام 2023 عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، الشيطان لم يكمن قطُّ في التفاصيل؛ فقد ضربت الكاتبة عدة مواعيد لم تخلفها مع البوح والحكي والشكوى، ومع المذكرات وأحلام العصافير في طفولة عنوانها البراءة، ومواعيد أخرى مع المذكرات والذكريات واليوميات، قفزت فيها عبر أربعة أقسام، من الطفولة والميلاد وأحاديث المرآة، وتعرف طائر الموت الذي يتخطف أعز الناس، مرورًا بشريط من الذكريات التي شكلت ذاكرة الكاتبة وطرزتها بأحاديث الأمهات والجدات والجيران، وصولًا لقسم المعنى وحديث الفجر وتجارب داخل بلدها سلطنة عمان وخارجه خاصة المغرب ومقاهي المغرب، حتى القسم الرابع الذي تتجرأ فيه المؤلفة أكثر على البوح والكتابة، لتجيب السؤال الذي بدأت به مقالتي: منى حبراس من تكون ولماذا تكتب؟ كما تقص طرفًا من عشقها القديم الجديد والمتجدد وتأثرها بكتب وكتابات المفكر الكبير زكي نجيب محمود، الذي دخلت جنته وصنع لها شغف القراءات الأولى، “فلا يمر ذكر زكي نجيب محمود، إلا وشعرت بامتنان هائل لحالة الولع التي تلبستني وأنا أقتفي كتبه في بدايات تعلقي بالقراءة عبر موضوعاته وهي تقرّب الصعب إلى الأفهام بسلاسة تجعل من أسلوبه نسيج وحده، حتى حسبتني أقلّده بغرور فجّ، وإذا كان لأحد أن يتباهى بتقليد أحد ولا يصل إليه، فسأكون أنا”.
كلمات ليست كالكلمات
تتحدث منى عن لذة الكتابة، وحديث الأفكار فتقول: “تتكون أفكاري عندما أبدأ في الحديث عنها، أو في كتابة أول خيوطها. سرعان ما تتوالد وتتضح تفاصيلها أثناء الكتابة أو الحديث. بينما في الصمت تصمت الكلمات، فتصمت الأفكار. علي أن أكتب رأس الفكرة أولاً لأتمكن من رؤية باقي جسدها، فتتنفس فيها الحياة فور اكتمالها”.
وبنبرة البوح نفسها التي تشبه النقش على جدران الروح، تقربنا الكاتبة من مخاوفها، إذ تخشى العمى وفقدان الذاكرة فتقول:
“كلما انطفأت الكهرباء في بيتنا ليلًا، فإن أول ما أحرص على التأكد منه هو أنها الكهرباء التي انطفأت وليس عيني”!
وتردد في موضع آخر: “أنا لا أخاف الموت، ولكني أخاف العمى، أخاف الفراغ الذي لا يكفيه شيء آخر ليملأ حفرته المهولة”.
زهايمر
ضمن مخاوفها المشروعة، تخشى منى على مندوس ذكرياتها، وتسوق أسبابها فمن منا لم يفقد ذاكرة هاتفه الذكي يوماً، أو جهاز حاسوبه، أو فقد أرشيفًا إلكترونيًّا كاملاً من الصور وأرقام الأصدقاء، أو ضاعت مجلدات بحوثه ومقالاته وأشياء كتبها كانت على وشك أن تخرج للقراء بمجرد دَفعة واحدة تزج بها إلى دار النشر !.
فالزهايمر لا يستثني أحداً، فإن لم يكن زهايمر بيولوجيًّا فزهايمر إلكترونيًّا، فحافظوا على ذاكراتكم واستنسخوها، فلم تعد الذاكرة مأمونة ولم تعد التقنية كذلك!
لم ألتق منى قبلًا، رغم إقامتي بسلطنة عمان نحو خمسة أعوام، لكني أحسبها تشبه حروفها وألوانها وأحلامها تمامًا، وأستعير تعبيرها بل أوافق خلاصة أوردتها في كتابها تقول: “لا يلزمنا وقت طويل كي نعرف الناس، فقلوبهم البيضاء تعرف كيف تكشف عن بياضها بعفوية ومحبة”.
تلصص على حياة الآخرين
يحلو للكاتبة الحاصلة على درجة الدكتوراة في الآداب من جامعة محمد الخامس في الرباط في عام 2019، والماجستير في الآداب من جامعة السلطان قابوس في عام 2011، والبكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من الجامعة نفسها في عام 2006، أن تصف السيرة الذاتية بفن التلصص على حياة الآخرين، وعن هذا الفن تقول:
“استطعت أن أعيش مع فن السيرة الذاتية أكثر من حياة. عشت عبرها حيوات كل من قرأت سيرهم الذاتية في وقت كنت أتلمس فيه طريقاً خاصًّا في عالم مزدحم بالرؤى والأفكار، والأحلام”.
رحت أتلصص على عالم من الدهشة في «الأيام» لطه حسين، وعلى فضاء الجامعة في الحي اللاتيني لسهيل إدريس، وعلى قسوة الأب في «الخبز الحافي»، والطفل العجوز في زمن الأخطاء» لمحمد شكري، وعلى جمالية التشرد في “عراقي في باريس” لصموئيل شمعون، وعلى ثقافة التعايش والتسامح في المجتمع المغربي خلال مرحلة الاستعمار في”رجوع إلى الطفولة” لليلى أبو زيد.
تجد الدكتورة منى متعة بالغة عندما يختطفها كتاب لم تكن قد حسبت له حسابًا، ولا تنزعج لو انقضى عام على آخر معرض للكتاب، ولم تتمكن من قراءة كل ما اشترته من كتب، فالكتاب عندها ليس سلعة تستهلك لنترقب تاريخ انتهاء صلاحيتها قبل الموسم التالي للمعرض!
في مديح الكتابة
ولأن الكتابة عشقها الذي يخنقه الصمت قالت: “ولدت وبداخلي رغبة كتابة لا تتحقق، وكم اشتهيت أن أفجرها في كلمات، فما زال يؤلمني أن أراهم ينزفون كلمات وأبقى أنا أنزف صمتًا”!، وهكذا هي الكتابة الحلم التي تتجاوز كونها فنًّا للعيش.
تصف الكاتبة علاقتها بالمغرب التي قضت فيها سنوات أثناء إعدادها أطروحة الدكتوراة في الآداب فتقول: “البلد الذي يمنحك معرفة أجمل الناس قبل شرارهم بلد يعرفك، البلد الذي يضع في دربك الياسمين قبل الشوك، بلد يعرفك. البلد الذي يريك الربيع بينما الدنيا شتاء، بلد يعرفك، البلد الذي يضمك فردًا منه لا ضيفًا وافدًا إليه، بلد يعرفك، هكذا عرفتني المغرب، فعرفتها”.
الكاتبة العمانية الدكتورة منى حبراس السليمية، حاصلة على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها التاسعة 2022 عن فرع الآداب في مجال المقالة، عملت في وزارة التربية والتعليم، ثم في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وتعمل حاليا مديرة للفعاليات الثقافية والإعلام بمؤسسة بيت الزبير في سلطنة عمان، صدر لها كتاب (الطبيعة في الرواية العمانية) في 2013 عن بيت الغشام للنشر والتوزيع والإعلان، و”طباشير حمراء”، و”رسائل متأخرة لحضرة الوالد”، وكتاب نقدي بعنوان”الحواف المسننة”وتعدّ مجموعة إصدارات أخرى أدبية ونقدية، كما تقدم عبر موجات إذاعة سلطنة عمان برنامجها المتميز “المشهد الثقافي”.
………………………………..
*كاتب صحفي مصري