عبد الرحمن إبراهيم
في كل قصيدة دائمًا ما توجد ذات مقحمة، لا يتخلى أي مدلول شعري عن الإشارة إليها في كل مرّة، حتى وإن كان سياقا واحدا يشمله النص الشعري أو عدة سياقات تنطلق منها كل قصيدة بحثًا عن ذاتها، وفي الآن نفسه متحررة من ذات شاعرها ظاهريًا، لكنها رغم ذلك ما تلبث أن تشير إليه في كل مرة كلعنة حلت من العدم لتحكم قبضتها عليه في كل قصيدة، دائمًا ما توجد تلك اليد، التي كلما ظن شاعر ما أنه هرب منها، لاحقته خِفية ليدرك بعد كتابة كل قصيدة الصفعة التي تلقاها مع اكتشاف الخديعة.
لذلك في ديوان طيف عابر يحاول أن يشب لمروة مجدي – الهيئة العامة للكتاب ٢٠٢٣ – تلجأ الذات الشاعرة بكاتبتها نحو حيلة تبدو على نحو ما أداة لا ترثي ذاتها، لكنها تمكنها مع كل قصيدة كضلع مؤسس تنهض عليه مباشرةً، أو كضيف عابر يتعدى كونه مادة، فما تمثله حيلة مداراتها كان المقابل له أن تصبح الصيغة المجردة لقصيدة ما؛ هي صورة لمجاز غير متخم بالاستعارات، ولا ينفي في الآن نفسه تنحيه عن ما يثبت بطلان خطابه، فديوان مروة مجدي تعدى كونه صوتًا فرديًا، ليشكل معارضة شديدة القسوة للواقع وأسلافه ونقضًا للسياسة وصوتًا لجماعة مجهولة الهوية، لكنها تحتضن أفكارها، ولا تضمر الصورة هنا أي خطأ فادح، لكنها ترصد أخطاءها من ذات الخطاب الذي تنقض به كل مجاز حل كأداة تعارض به واقع ينبش خلف ما يحدثه سطحه من صدوع، كأن الحقيقة التي نظنها ظاهرة لا تتعدى كونها مقبرة.
مراوحة السياق
في قصيدة “لا مفر من الموت إلا بالحياة” يكون ضمير المتكلم هنا هو صوت لجماعة ثورية وحالمة، قررت أن تكون ضدًا لقمعها، فيما تسبقها قصيدة بعنوان “حياة تشبه الشيطان” ليمثل السؤال الوجودي أمام سياق منفصل ينعتق عن الصوت الذي يعلو على أغلبية قصائد الديوان، هذا التصور للشكل الذي ينهض عليه الديوان، قد ثبت إلي كونه فرارا دائما من ذات تغلب عليها رغبة في الوجود أمام رغبة أخرى تحاول نفيها؛ بحثًا عن معنى أو للانحراف بقصدية إلى فضاء مجرد تشكل فيه القصيدة هامشًا استعاريًا لصوت ينفي ذاتيته المقحمة على عتبة الإشارة إليها، لا تنفض كل قصيدة أن تشحذ أدواتها في الهروب من سياق متصل إلى آخر حر، ليكون أكثر انفتاحًا في المراوحة.
تفكيك الأيديولوجيا
تنفتح الذات هنا من خصوصية فردية إلى خطاب جمعي، يضم بالتبعية صوت جيل كامل تبرز همومه كقطيعة تبحث عن موقعها على حافة العالم، وعن ما ينفض غبار أسئلتها ويستعيدها من هامش الأيديولوجية إلي مركزيتها، هذا الانفتاح في السياق الشعري قد فتت خطاب الأيديولوجيا إلى أحجية متناثرة، فالعنوان هنا لا يمثل نصا منفردا من بين عده نصوص يضمها ديوان مروة مجدي، لكنه تبنٍ للشكل الذي ينهض عليه السياق الشامل، فالطيف العابر هنا تنقل بين الأصوات من ذوات لا تميزها نبره واحدة، لكنها تحافظ على التنوع الأيديولوجي لخطاباتها، بدءًا من الأسئلة المركزية للإنسان مرورًا بتخوم الهوامش الفردية، وأحيانًا تقف بعض النصوص لتراوح بين سؤال هامشي ينحاز إلى فرديته، وبين سؤال جمعي يشغله قضية كبرى، فيبرز سؤال الهوية هنا انحرافاته على تخوم المعنى، كونه يحتمل أشكال متعددة هي امتدادًا لجوهره وفي الآن نفسه انزياحًا عن كل يمثله من غربه.
فأحيانًا تذاب الفوارق بين الأشكال، لتنحاز قصيدة ما إلي حكاية تذهب إلى ظل المعنى لتقبض عليه، مثل حبكة مبستره أو ظل حبكة يعكس إيهامًا بحكاية للمفارقة تذهب للتجريد أكثر من التجسيد، هذا التصور للقصيدة هو أكثر انحيازًا لخصوصيتها وكسرًا لنمط ايقاعاتها، وأكثر انفتاحًا في تصورها الفني، لكنها لا تبتعد عن حساسيتها الشعرية لمجرد تسخير أداة تشكل إطارها دونًا عن غيرها، فهي تصور مستقل، وفي الآن نفسه امتدادًا لذاتها.
القصيدة بين الغناء والصمت
تبرز بعض القصائد مفارقة فادحة، كونها تتغنى بإيقاعها، هذا الشكل الذي لم تعتده قصيدة النثر تمامًا دون أن ترى إطارها في أحد أكثر أشكالها جدلية، ولتكسر باستمرار نمط إيقاع القصيدة الحر وعلى نحو ما تأتي به حافة النص، ليحضر الفن في تقليده هذا ويحبو إلي العجز، مجبرًا على أن يسلك دروبًا أخرى قد تكون أكثر حضورًا في أكثر مقام موسيقي يتجنبه المفارقة أيضًا الغناء ذاته، وهو الصمت.
الغناء في قصيدة النثر لا يتحسس موقع التقاء مباشرة أو تجرد فادح، فتصبح القصيدة هنا ايهامًا لا يراه المتلقي إلا مجرد أغنية، ففي قصيدة “ويلفعنا الانتظار” يخرج النص من ثوب الحكي لينشد عِتاده، كأن هذا العتيد، أحد تجليه لمناداةالغائب في قصيدته، وليمثل بكل عزائه رثاءً آخر تنقب تحت حنينه الأدوات.
كل هذا ما كان ليتشكل إلا إمام نص قلق كقلق جوهرة، لا يعتبر القصيدة موضع مجاراة للأفكار، لكن الأفكار هي من تجاريه، وتخضع لقوانينه ولا تنفي وجوده اتقاء أداة عن غيرها، حتى لا يبقى جنس القصيدة دمًا يراق على عتبة الشعر، كل صوت هو حر مستقل داخل الديوان، لا يعلق أما حائل أو مصطبة يقف أمامها الشعراء منتظرين أن تكون أحد وافدينها الجدد، لكنه يتعدى تلك الفكرة التي توهم برسوخها أن القصيدة تقف لترسخ على الأرض بقدميها، عن كونها تؤمن ككل الطيور أنها مجرد طيف عابر يحاول أن يشب.