طلة أمي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبة حافظ

“ليس على أحد أن يعيش حياة شخص آخر حتى لو كان أعز الناس!”

فجأة، ظهرت ندبة في يدي – من غير جرح ولا أعرف مصدرها – لكنها جاءت لتذكرني بجرح قديم غائر، احتاج وقتها إلى خياطة أربع غرز أسفل كف اليد اليسرى، أتذكر أنه كان مؤلما، لكنه لم يكن في يدي، بل في يد أجمل.. أحن.. يد أمي!

لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي تترك لي فيها أمي إرثا غريباً كالندبة! تركت لي أيضا وحمتها في وجهي، في المكان نفسه من وجهها، أعلى الوجنة اليسرى.

أعتبره إرثاً حقيقياً، لأنه لم يظهر إلا بعد وفاتها.. كنت قد أكملت عامي السادس والثلاثين، قلت لنفسي: “هذه عطيتها”. وقبلت العطية ممتنة، حتى لو كانت ندبة غائرة في اليد ووحمة في الوجه.

رأيت فيهما رسالة أحتاجها، رسالة تصل إلى قلبي دون أن أفضها فأشعر بها:

ـ لا تأخذي مني أكثر من ذلك

ـ تركتهما لك لتذكريني

ـ كوني ذاتك فقط، فلا أقدار متماثلة، اصنعي قدرك.

ـ ليس على أحد أن يعيش حياة شخص آخر حتى لو كان أعز الناس!

وصلتي رسالتها كأنها نور شمس، أغمضت من وضوحها عيني وتخيلت صوتها، ونظرة عينيها الخضراوين، وهي تحثني أن أنطلق لأعيش وأجعل جزءاً منها يعيش سعيداً معي.

“الندبة” و”الوحمة”..  سأجعلهما تسافران معي، ونلف العالم سويا، ونرى ما لم تره، نحب، نضحك، نجرب كل شي أرادت تجربته وأكثر، سأجعل إرثك سعيد يا أمي

 

اليوم أحسست أن لي مشية أمي

كنت قد تعرضت لجلطة عميقة في قدمي اليسرى أصابت الوريد الرئيسي للقدم كلها، استمرت معاناتي شهور لكي أستطيع المشي مرة أخرى، ومعاناة أشد استمرت لسنوات لكي أستطيع المشي “بشكل طبيعي” من غير عرج.

هل حدث هذا لأتذكر أمي حين خضعت لعملية جراحية لتغيير المفصل الأيسر، وقد استسلمت لعرجتها لحين وفاتها؟

أراقب حركتي وتطورها، والتحدي الذي وضعتني فيه قدمي وأوصلني من قعيدة في الفراش يعجز عقلي عن فهم ما حدث لي، إلى عقل وقلب وروح وجسد أصبحت الصحراء بيتهم، والجبال سكنهم، والمشي لساعات طويلة منطلقة في الشوارع في الأسواق في الحواري نحو وحول العالم هدفاً لهم.

ومع كل التحدي والتحرر من سجن قدمي، كان ثمة شيء يشدني لذكرى قدمي، شيء يشعرني بغصة الاختلاف، حركة قدمي المصابة التي لا يكاد أحد يحسها، أنا فقط التي أحس بها وأعرفها،

ثقلها يذكرني دوما أنها مختلفة.. أنها تشبهها

ثقلها على الأرض، زحفها، صوت مشيتي

لو سمعها شيرلوك هولمز وهو يحقق في جريمة قتل، سيعرف من مشيتي أني القاتلة لا محالة، أني سرقت مشيتها!

لا أجعل أحدا يدرك أو يلاحظ… وتراءت لي فكرة مدهشة من بساطتها،  أتخيل أن الله خلق لي قدمين مميزتين، أعطاني هبة لتذكرني دوما أني موصولة قلبا وعقلا وروحا بالفلك والفضاء … 

خلق الله قدمي اليمنى على الأرض

وخلق قدمي اليسرى على القمر

أثقل لكن جزء مني على القمر …

نعم هي كذلك، لذا أحببت أن اغني لها أغنية شهيرة لفريق  The Police – Walking on the moon

خطوات هائلة هي ما تحتاجه

لتمشي على سطح القمر

أتمنى ألا تنكسر قدمي

وأنا على سطح القمر

يمكننا أن نمشي للأبد

نمشي على سطح القمر

يمكننا أن نعيش معا

نمشي على سطح القمر

 

اعتدت أن حب الأشياء غير التقليدية، اعتدت التقبل والتصالح، أحببتها وأحببت الله الذي يصالحني على كل شيء.

هل لهذا أحببت قدم أمي؟

قدم ثقيلة ولكن ما أكثر حركتها، لا تجلس، نحلة محبة للحياة والاستيقاظ مبكرا وعمل كل أنواع المجهود الذي تتخيله أو لا تتخيله، كان واضحا لكل عين ثقل قدمها اليسرى وحجلتها الواضحة،

لم تبال بالاختلاف ولم تضعه في وضع أكبر من حجمه، بل لم يرد حتى ببالها

 

أملك بساطة الفلسفة

وتملك هي بساطة اللا فلسفة 

أخبروني كثيرا أن طلتي تشبه طلة أمي

وأن روحي من روحها

مع أن أحداً لا يجب أن يعيش حياة آخر، حتى لو كان أعز الناس

يقولون إن ضحكتي الدائمة كلها منها

ومنذ أن غادرتني وسبقتني إلى سماء البهجة واللعب

وأنا أتحول إليها شيئاً فشيئاً

كل يوم أكتسب شيئاً جديداً.

هل أمي بهذه السذاجة اللطيفة التي تبعث على الاندهاش والضحك؟ أمي أطيب خلق الله، الدموع السريعة للفرح والحزن على سواء، الرقص على أغاني عبد الحليم صباحا وهي تستعد للعمل وسماع نجاة أو أم كلثوم مساء قبل استعدادها للنوم، إعداد فنجان قهوة قبل المغربية، ضحكة مليئة بكل أصوات الطبيعة المبهجة، كروان كناريا هدهد، عدّد ما شئت.. لوحة كاملة مبهجة ملء النظر والخيال.

اليوم، قال لي كل من قابلني إني كلي من أمي، لكني سأكون نفسي أولا كما طلبت مني.

أعرف ذلك.. أسمع صوتها كل يوم يهمس لي:

“ليس على أحد أن يعيش حياة شخص آخر حتى لو كان أعز الناس!”

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

art 40
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المائدة