حاوره: محمد مهنا
طـارق إمام إذا قلتُ: مَنْ لا يعرفه، سأكون مخطئا بشدة؛ فكثيرون يعرفونه، ومع ذلك سأصر على غلطتي، وأساير افتراضي العبثي؛ لأكمل جملتي، مَنْ لا يعرفه، ويقرأ أول سطر من كتبه، شريطة ألا يرى الغلاف، يقول إنها قصيدة نثر رائعة، وإنه شاعر مبدع..
مهلا يا سادة، إنني لم أبتعد كثيرًا عن الحقيقة؛ فهو شاعر السرد، وسارد الشعر؛ روائيٌ وقاصٌ يُخبّئ تحت جلده الإبداعي شاعرا مجنيا عليه، بإصرار يريده، ونشكره عليه إلا قليلا؛ نحمد له تفرغه لكتابة القصة والرواية؛ لأنه أبدع فيهما، وحجز لنفسه مكانا، تفرَّد في اعتلاء قمته، ربما ينافسه واحد أو اثنان، لكنه وبثقة تامة، يعلم موضع خطو قدميه، الذي منحه له ما يخط به قلمه. ونبخل بمقدار ضئيل عن شكره؛ لأنه حرمنا من شاعر موهوب.
أرفض تكرار المقدمات التقليدية؛ لأذكر لكم أن طارق إمام وعى على الدنيا، فوجد نفسه كاتبا، وأنه نشر في سن الثامنة عشرة؛ أي في العام 1995، ‘طيور جديدة لم يفسدها الهواء’، ثم بعد عامين؛ في العام 1997، نشر ‘شارع لكائن آخر’.. لا لن أذكر لكم أنه يمتلك موهبة الكتابة للأطفال، التي يفتقدها كُتّابٌ كبارٌ باعتراف زعيم الرواية العربية الكبير نجيب محفوظ، فعلها طارق في العام 2000 بمجموعته القصصية ‘ملك البحار الخمسة’… يوووه قلت لكم لن أسرد تاريخه مع الكتابة، ومع ذلك ذكرت بعض ما نشر.. شوفوا.. باختصار لا زلت أبحث عن الشاعر الذي بداخل طارق إمام، الذي لا ينكره هو، ولا أحتاج أنا لهذا الإنكار؛ وإلا فليفسر لي قراؤه، ما السر وراء صناعته لبطل روايته الرائعة ‘هدوء القتلة’، وإلباسه ثوب شاعر؟.. دعكم من شاعره القاتل المتسلسل في هذه الرواية، ولكننا سنشير إلى طارق إمام عقب صدور روايته القادمة عن الشاعر اليوناني الاسكندري قسطنطين كفافيس، ونقول له: اطلع من دول يا شاعر!.
ـ لأكثر من سبب.. كفافيس بالنسبة لي أكثر من شاعر عظيم، هو شخصية درامية بامتياز.. بتناقضاته، بسيرته المعقدة، بالمناطق الغامضة والمنسية في حياته، وبفجوات واسعة في تاريخه لا يمكنك إلا تخمينها.. كفافيس شخصية تناديك لتؤلفها من جديد، وليس فقط لتقرأ تاريخها وسيرتها.. تحفزك لكشف ما ينطوي عليه من وهم، وهم الفن بالذات وتخميناته.. من ناحية ثانية هو شخصية قادرة على كشف عالم يكمن وراءها.. عندما تعيد كتابة كفافيس، فأنت في الحقيقة تعيد كتابة مدينة اسمها الإسكندرية تحت ضوء جديد.. تقرأ منحنى تاريخيا كبيرا بين القرنين التاسع عشر والعشرين.. تقرأ سؤال ‘الهوية’ في تشابكاته وتعقيده من خلال مجتمع كوزموبوليتاني بالمعنى العميق. مقولة ‘شرق وغرب’، تكتسب، مع الإسكندرية، بعداً ملتبساً بالفعل لا يمكنك أن تزعم فيه التصالح والذوبان الكامل أو التنافر والصدام الصريح..
ـ الرواية مزيج من التأريخ والتخييل.. لا أميل لكتابة التاريخ مثلما ورد بالكتب.. بل ولا أميل لتصديقه.. عندما يدخل الفن إلى منطقة التاريخ يجب أن يعيد قراءته.. يعيد مساءلته.. ليخرج بواقع جديد. الشك في التاريخ، الولع بالبحث في المنسي، بل والقابل للتحريف فيه، هو أحد أدوار الفن في ظني.. ولا وجود لشخصية في الدنيا أكبر من أن يلعب معها الفن ويعيد خلقها!
ـ لم أتعمد ذلك بالطبع، لكني اكتشفت بعد انتهائي من كتابة ‘كفافيس’ عدداً من الأفكار المشتركة.. فكفافيس يكشف الإسكندرية وسالم كان يكشف القاهرة.. وكلاهما يمثل رؤية باطنية لمدينته.. كذلك كلاهما منحرف وفق السياق الأخلاقي العام، ورغم ذلك يريان أن انحرافهما هو الطريقة السوية للتعامل مع العالم.. وبشكل عام، أعتقد أن كل كاتب مهما تنوعت أعماله يكون لديه عدد من الأفكار المركزية، يجربها مرة بعد الأخرى، كأنها وساوس قهرية، يعيد صياغتها بشكل جديد في كل مرة.
ـ لا يمثل شيئاً أكثر من بهجة أن يقدرك شخص أو مجموعة أشخاص ويقولون لك: عملك جيد. الجائزة حافز، لكنها ليست كل شيء، والتاريخ أسقط الكثيرين ممن حصلوا على ‘نوبل’ نفسها.. وخلد آخرين لم يحصلوا على جائزة واحدة.. والمحصلة أن الجائزة هي أحد المعايير.. لكنها ليست أبداً المعيار الحاسم أو الوحيد لجودة الكاتب أو استحقاقه.
ـ ببساطة أنا أكتب ما أريد وما أحب وبعد ذلك يأتي النجاح أو لا يأتي.. وأنا أرى أن الفجوة بين القارئ والناقد وهمية ولا وجود لها إلا في الوطن العربي.. فالقارئ هو ناقد بريء.. والناقد في الحقيقة قارئ محترف.
ـ لا.. لم أكتب عن كفافيس بمنطق استعادته عبر وعي استرجاعي.. الأحداث تدور أثناء حياته وتنتهي بموته.. كفافيس متجسد على أكثر من مستوى وعبر عدة وجهات نظر.. حاولت أن أكتب رواية وجهات نظر عنه، يتم فيها تقديمه عبر أكثر من صوت ووعي، لمصريين وأجانب، مثقفين وأشخاص عاديين.. لأكشف كفافيس الذي يعيش في أقنعته.
ـ فضلا عن أنه نشر متأخرا، فكفافيس لم ينشر سوى ديوانين في حياته.. رغم غزارته في الكتابة.. أعتقد أنه لم يكن يبحث عن الشهرة أو التحقق.. كان يبحث عن الشعر بشكل لا يخلو من تصوف وتجرد.. وكان أكثر ميلا للعزلة والانطواء.. هذا جانب آخر في ثراء شخصيته.
ـ قرأت كفافيس من أكثر من مصدر، منها اللغة الانكليزية، وترجمات عديدة لنعيم عطية ورفعت سلام وسعدي يوسف وشوقي فهيم وغيرهم.
ـ هناك أسماء تبقى فارقة وقادرة على الإلهام.. شكسبير، دوستويفسكي.. كفافيس أحد هؤلاء.. تأثيره ممتد وله قصائد إنسانية قادرة دائماً على الإلهام.. منها ‘المدينة’ التي أشرت إليها، و’إيثاكا، والشموع، وفي انتظار البرابرة’.. إنها قصائد كونية تبقى دائماً إمكانات لإعادة كتابتها وتأويلها.. ويضاف لكفافيس علاقته العميقة بالإسكندرية، إنه الأيقونة المتجسدة لتناقضات هذه المدينة وحيرتها وأسئلتها الموجعة.
ـ سؤال طريف وذكي.. قال كفافيس ساخرا: ‘لقد كان البرابرة حلاً من الحلول’، وأعتقد أن هذا ما فكر فيه المصريون عندما منحوا أصواتهم للإخوان والسلفيين.. وها هم يكتشفون، كما حدث في القصيدة، أن البرابرة لن يأتوا بما كانوا يُنتظر منهم.. أتمنى ألا ينجح البرابرة في مخططهم.
ـ الموضوع في القضاء.. وأتمنى أن تظهر الحقيقة بعد المحاولات التي جرت لتشويهي ولقلب الآية.. وأتمنى من الدكتور شاكر الذي أقدره وأحترمه أن يتذكر دائماً أنه واحد من المثقفين يمثلهم في الحكومة، وليس فرداً في الحكومة يمثلها عند المثقفين!
ـ بالتأكيد أسعد بالتقدير، ورغم أنني لا أعتبر الحصول على جائزة معيارا وحيدا لجودة الكاتب أو تقييمه.. لكن فكرة أن عددا من الأشخاص أجمع على استحقاقك هي بالفعل شيء مبهج ويشعرك ببعض الجدوى في مهنة مرهقة ما تزال للأسف تفتقد للتقدير الحقيقي في مصر.
ـ كل التفسيرات واردة وصحيحة.. لا أحب المعنى الأحادي في الفن.. لكني بشكل عام مشغول بفكرة الموت، هل يمكن أن ينتهي الموت بالحياة مثلما تنتهي الحياة بالموت؟ .. الموت هو سؤال الإنسان الكبير، ولا أرى له إجابة إلا في الفن للأسف.
ـ كنت أقصد الحوار المفتوح غير المشروط الذي يجب أن يتوفر بين الكاتب والقارئ.. العلاقة متبادلة.. القارئ من وجهة نظري يعيد كتابة النص وفق ثقافته وأفكاره وذوقه.. إنه في الحقيقة يعيد كتابته.. لكل عمل فني كُتّاب كثيرون بعدد قرائه.. وبالتأكيد يستفيد الكاتب من كل وعي يصطدم بوعيه ويجادله.. وبالطبع تنسحب وجهة نظري على كل أشكال التعبير بما فيها قصيدة النثر.. لو دققت، ستكتشف أن التنظير للفن وُجِدَ أصلا للتقريب بين المنتج والمتلقي، لوضع ‘دساتير’ فنية لو صح التعبير.. لكنها أيضاً قابلة دائماً للحوار والتغيير.. لكن التنظير عندنا تحول لألغاز أكبر؛ ففقد حيويته وتخلى عن دوره.
ـ كل جديد صادم، ونحن مجتمع أبوي.. يقدس كل كبير، وكل قديم، وكل ثابت، ويحارب الجديد والمختلف والمغامر.. الثورة قامت بالأساس في ظني ضد هذا المجتمع الأبوي بكل قيمه البالية وقوانينه التي لم تعد تصلح.. بتراتبياته الجوفاء وعقمه.. لهذا هي ثورة فنية أيضاً بنفس قوتها السياسية والمجتمعية.. لا أستطيع ضرب الودع في المشهد المستقبلي، لكني أستطيع أن أؤكد: لا أحد باستطاعته الوقوف في وجه التجديد والتغيير.. لأن من يفعل ذلك هو مثل شخص عارٍ يقف أمام موجة بحر هادرة ستأخذه في طريقها للنسيان.
ـ أعتقد أنني أفهم ما يقصده الروائي الكبير عبد الوهاب الأسواني.. وهو أن المبدع سيعود لدوره السياسي الفاعل ووجوده في الشارع وهو ما سيجعل الكتابة جزءا من هم أكبر.. لكن طبعا الكتابة موجودة دائماً.
ـ الاستفادة متبادلة.. لكن الصحافي استفاد أكثر من الروائي في حالتي.. أنت في الصحافة تضخ لغتك بسخاء وكأنك تضحي بها!
ـ الإبداع والنقد لا ينفصلان.. وممارستي للنقد الأدبي جزء من عملية القراءة الإبداعية.. وتنظيم جيد للأفكار.. وبالفعل أجهز لإصدار كتابين نقديين، أحدهما عن قصيدة النثر المصرية والثاني عن الرواية.
ـ أفضل التعبير عن الشاعر الكامن بداخلي في السرد.. السرد يحتوي على إمكانات هائلة لمن يكتبه، الشعر دائماً أراه جزءاً من حكاية.
ـ ههههه.. نعم الرواية دائما تنتصر.. الرواية طفل مدلل لا يقبل أن تلتفت عنه وإلا خاصمك.
ـ أكذب عليك لو قلت إنني لست قلقاً.. وأكذب لو أكدت أنني متفائل.. لا بديل عن ثورة ثانية.. لن نحصل على شيء لو لم ننتفض من جديد.. بالعكس، سنخسر كل شيء حتى ما كسبناه من 25 يناير.. لقد صنعنا حلما يصر آخرون أن يحولوه لكابوس.. من المجلس العسكري، لفلول النظام السابق، للتيارات الإسلامية الانتهازية والمتخلفة في نفس الوقت.. الثورة أصبحت مثل شخص أعزل يواجه جيش أسلحة.. ولابد أن تعود أقوى وأشرس وأقل رومانسية.
ـ أتمنى أن تصبح كرمة ما تحب.. ولو أصبحت فنانة في أي مجال سأكون سعيداً بالطبع.