نظرت لساعة يدي في عصبية .. يبدو كما لو إن العقارب قد أصيبت بالشلل مسحت العرق المتصبب من وجهي .. ” لماذا لا يتحرك هذا الطابور اللعين؟!! ” … كنت على وشك الصراخ .
التفت حولي وأنا اشعر بالضجر .. حاولت أن اشغل نفسي بمتابعة ما يدور في الشارع حولي .. لكن ما من شئ يستحق المشاهدة في منتصف نهار قائظ الحرارة .
وبينما انظر أمامي لمحتها …. امرأة عجوز .. متكئة على عصا من جذع نخلة .. تمشى بصعوبة بالغة .. ترتدي جلبابا مهلهلاً ، وحذاء مرقعا..
تختفى ملامح وجهها الحادة وراء التجاعيد المنتشرة فيه وتغطى رأسها الذي ابيض شعره بشالاً اسوداً بالياً بهت لونه ..
لا اعرف لما انجذب بصري إليها ، ونسيت أمر الطابور الذي أقف فيه منذ ساعة كاملة …
ظللت أتأملها وأتابعها بعيني وهى تنبش الأرض بقدميها النحيفتين ، وتتجه إلى مدخل المخبز دون أن تقف في الطابور ، وسرعان ما خرجت حاملة في يديها الواهنتين رغيفا يابسا قد اسود وجهه … أدركت على الفور أن الخباز قد أشفق عليها من السن ، والمرض ، والفقر وأعطاها الرغيف المحترق دون مقابل .
ظللت أتابعها وهى تتقدم ببطء وصعوبة متكئة على جذع النخلة …
وفجأة ….. اندفع من الشارع المقابل مجموعة من الأطفال يجرون ، ولم يلاحظوا في لهوهم ، ولعبهم المرأة العجوز وهى تتقدم في بطء ، ولم تنتبه هي لهم ..
وحتما كانت ستحدث الكارثة بين الحين و الآخر ، ويصدم احدهم العجوز في سيرها البطيء …. وصدق حدسي …
فبينما كان أحد الأطفال يمر بجوار العجوز … صدم عصاها التي كانت تتكئ عليها ، وسقطت العصا ، وفقدت العجوز توازنها وسقطت على الأرض ، وسقط معها رغيفها اليابس …
كان الطابور قد تحرك في أثناء ذلك ، واقترب دوري . لكنى ما إن رأيت العجوز تسقط حتى غادرت مكاني على الفور وهرعت لمساعدتها ..
التقطت العصا من على الأرض ، وساعدتها على الوقوف والاعتماد عليها مرة أخرى ، وانحنيت لالتقط لها رغيفها اليابس وامسح أطرافه من التراب وناولته لها .
لم تقل العجوز كلمة شكر واحدة … بل انفرجت تجاعيد وجهها تكشف عن مسحة من جمال قديم وابتسمت لي عيناها وهى تقول لي : ” ربنا يكرمك يا بنتي ” .
وواصلت طريقها في بطء … ابتسمت أنا الأخرى، والتفت انظر إلى الطابور لأجد إنني فقدت دوري وانه مازال طويلا كما كان ….
وعدت لاقف في نهاية الطابور مرة أخرى ، وانتظر دوري من جديد …