فخلال تلك الأيام تمر بعض الذكريات الهامة من عمر وطنا الغالي، والتى لم تأخذ حقها في الاحتفاء بها، منها: ذكري ميلاد أديبنا الكبير “نجيب محفوظ” الثانية بعد المائة، ومعها أيضا مرور ربع قرن على فوزه بجائزة نوبل، وتمر أيضا الذكري المائة لصدور أول رواية عربية، والتى بدأت بصدور رواية ” زينب ” للكاتب والمفكر محمد حسين هيكل.
وهكذا أصبحت تلك الجملة “آفة حارتنا النسيان”، “مثلثاً” لا يمكن تحطيم أحد اضلاعه.
أين نحن من كل ذلك؟، وأين تلك “العصابة” التى كانت تحيط بالأستاذ والتى كانت تملأ الدنيا نقنقة وضجيجاً حوله.
أين من استفادوا من وجودهم حوله؟، وأين من كان يكتب عنه كلما تحدث أو بدأ في مشروع رواية أو نص ادبي؟، أين من كانوا يجلسون بجواره فى ندواته وسهراته؟، أين من استمع منه كلمة عابرة أو رد قاطع على قضية أدبية او فنية؟ أين جميع هؤلاء؟.
لقد كسب الجميع من “محفوظ” بوجودهم حوله، كسبوا شهره وعلاقات بالظهور فى التليفزيون والفضائيات والصحف، وإجراء حوارات وتأليف كتب عنه وعن أعماله وعن سيرته، وكسبوا أيضا من قربهم منه، ومن ظهورهم في الصورة بجواره.
والآن لم يعد أحد منهم ينقنق ويتقافز، فقد انتهت “المصلحة” ورحل فتوة الحارة المصرية “محفوظ” ولم يعد لصبيانه أي عمل..!!
لقد صمت من كانوا ينقنقون بأنهم مريدوه وحرافيشه، وأنهم أوصياء عليه وعلى إبداعه وعلى تراثه وميراثه أيضًا، لقد صمتوا بعد المتاجرة باسمه، وبكتابته، وبجائزته؟ الآن صمتوا وتوقفوا عن تأليف الكتب وكتابه المقالات التى بها أسرار الفتوة، سواء في حياته أو موته.
لقد صمتت النقنقة بوجود جائزة مصرية عربية باسمه، دعك من جائزة الجامعة الأمريكية، وصمتت نقنقة إنشاء متحف خاص به، أو تحويل منزله لمتحف صغير، ولقد صمتت النقنقة بتحويل أماكن رواياته إلى متحف مفتوح، وصمتت النقنقة بأصدار أعماله الكاملة في طبعة شعبية تصدرها “الهيئة العامة للكتاب”.
لقد كانت نقنقتهم تملأ الدنيا فور ذكر اسم نجيب محفوظ، والآن لم يعودوا متفرغين له، واتسأل أين العصابة التى كانت تحيط بنجيب محفوظ وكأنهم ورثته الشرعيين؟، أين هم وقد كسبوا كل شيء وبنوا أمجادهم من جلسوهم معه، أين هؤلاء ومشارعيهم عن عمل متحف وتخليد اماكن رواياته.
هل دخلت الضفادع فعلا بياتها الشتوي، أم تبحث عن “فتوة آخر” يكونون من مريديه ومنتفعيه وينقنقون حوله وحول سيرته.
نعم أن ما يدور حولنا الآن نقيق ضفادع فقط، دون فعل ودون عمل، نقيق للذين يجلسون خلف مكاتبهم في غرف مكيفة يتشدقون بسيرته وصورهم معه، فهم حقاً ” تجار أدب”.
فكلما حلت ذكري أستاذنا، تلتف عصابة الضفادع وتبدأ في النقنقة في الفضائيات وعلى صفحات الجرائد، وتقرأ أو تسمع احدهما ينقنق: قريباً متحف نجيب محفوظ العالمي، قريبا جائزة نجيب محفوظ المصرية، بعد فترة تبدأ النقنقة في الارتفاع: الاماكن التى كتب فيها روايته ستصبح متحف مفتوح، ثم يتسع النقيق أكثر وأكثر: كل شخصياته سوف يتم عمل تماثيل لها، ثم يأتي صوت ضفدع غليظ ويقول: نبحث عن ملابسه، وآخر يذكر أن ارملته ترفض ذلك، وآخر تالي يقول: سوف ننقل رفاته لمقبرة عالمية.
وهكذا يظل الجميع ينقنق بسيرة أديبنا الكبير، سواء ارتفع النقيق أو انخفض، اصبح ناعما مثلما يحدث في بدء الليل أو همسا مع بدء سطوع الشمس، ..نقيق، نقيق… ويقف على الأطراف الخيول في خجل أن تشارك هذه الضفادع النقنقة.
نعم لم يعد يوجد لدينا أفراح كي ترقص فيها الخيول رقصا يفرحنا ويملئنا بالبهجة، ولم يعد يوجد معارك نشاهد فيها الفرس الجامح المنطلق وهو يخوض المعارك، واكتفينا – بترك الساحة للضفادع ونقيقها.
والآن يجب على الخيول أن تعود للساحة، وأن تعود للقيادة والرقص والتحجيل، بعيدًا عن نقيق الضفادع والذي لا يتطور أبدا، سواء ارتفع او انخفض، يظل نقيق فقط.
انني هنا اتحدث عن تجربة مريرة لهذا الوطن في الحفاظ على تراثه وتراث مفكريه وأدبائه وفنانيه، واتذكر هنا المرار الذي يحدث لعائلة أي أديب يرحل عندما تبدا في بيع مكتبته وملابسه واوارقه لبائعي الروبابيكا.
أن نجيب محفوظ ليس ملك أحد، إنه ملك أمة كبيرة وضخمة وعميقة جدًا، أمه قادره بشبابها ومثقفيها على أن تخرس وتدخل جميع تلك الضفادع في بيات شتوي حتي تموت، فنجيب محفوظ مُعملنا وأستاذنا وملك لنا جميعنا، نحن الأجيال الجديدة التى مازالت تدافع عن كيان هذا الوطن، دون البحث عن منصب او ظهور باهت على شاشات التلفزيون، أو موقع في جريدة.
دعونا، ونحن نحترم تلك الجملة، التى كتبها مؤرخ الحارة المصرية ” نجيب محفوظ” ان ندمرها أو نقلل من وقعها على حياتنا، ونترك النسيان جانبًا.
وأن نعلن أن هذا ليس عصر الصفادع، وأن شمسنا مازالت تشرق من الشرق، وأن قمرنا لم يتغير ويتفتت ولم يعد أعمدة إنارة او أطباق استقبال قنوات تلعب في عقولنا.
وكفي ما حدث منذ أيام عندما رحل عمنا وشاعرنا الكبير: احمد فؤاد نجم؟ فقد قامت حملة – واعتقد إنها مقصودة – من تيار ديني – على مواقع التواصل الاجتماعي” الفيس بوك” لمهاجمته وسبه وذكره بافظع الأفعال، وكأن أسرأب وجحافل وقطعان من ضفاع خرجت مرة واحدة، لماذ؟ لا اعرف، كما أنني خلال الأيام الماضية كنت ابحث عن بعض رسومات فنان الكاريكاتير الراحل” رمسيس” فلم اجد له اي رسومات على شبكة الانترنت، حتي مجلته ” صباح الخير” ومؤسسة روزاليوسف التى ملأ رسوماته بها صفحات وكان احد فنانيها، لم اجد لدي ارشيفهم اي من رسوماته او لوحاته، يضاف إلى هذا إنني لم اجد له صوره من تلك التى رسمها لأي من الفنانين الذي كان يسضيفهم في برنامجهم الشهير ” يا رمسيس يا”.
كل ذلك يجب ألا يمر مرور الكرام، وتصبح حقا ” آفة حارتنا وحياتنا النسيان”.
كل الذي أشعر به إنه يوجد حملة كبيرة لتفريغ هذا الوطن من كل رموزه وكل إنجازته ومفكريه، سواء بذكر كل ما يشين وخاصة سيرتهما الشخصية أو عدم ذكرها وبالتالي نسيانها، وهكذا تمر ذكراهم دون ان ينتبه احد، وكلما مر الزمان، تضعف الذاكرة حتي لا يتذكرهم احد..
هل حقا نسينا أستاذنا ومُعلمنا الأول لفن الرواية العربية؟ وأين تلك ” العصابة ” التى كانت تطنطن وتنقنق كالضفادع في الفضائيات والإذاعات بأسمه؟
للحقيقة أن الجو الآن لا يخلو من نقيق الضفادع ليل نهار، والجو اصبح مرتبك في جميع نواحي الحياة، ولكن معني هذا أن نترك الضفاع بعد أن خمد نقيقها وهمد يتكاثر كلامها في الهواء، أن يأتي وقت لنا للعمل، وللفعل.. دون نقنقه بما نفعل وبما يجب أن نفعله.
إن ما يحدث يا سادة الآن أمامنا مصيبة كبيرة، اولا كيف نحافظ على تراث ادبائنا وكتّابنا وفنانيا، يضاف إلى ذلك قدرتنا على الفعل!! وأين كل الوعود بتحويل اماكن روايات نجيب محفوظ على اماكن ومزارات سياحية، مثلما تفعل كل البلاد المتقدمة، أن هذا احد مقايس تقدمنا وتحضرنا، ولا ننسي التعب الكبير الذي قامت به المخرجة انعام محمد على عندما حاولت إخراج مسلسل ” كوكب الشرق أم كلثوم”، فلم يكن لديها أي شيء تعتمد عليه ألا الأفلام، لماذا؟ لأن الورثة باعوا منزلها أو فيلاتها بما فيه من ملابس واكسسوارت وتحف وخلافه؟ وكأن ام كلثوم ملكهم وليس ملك امه لها حق كبير فيها، وبالتالي و- وهذا ما اخشاه – أن يحدث – لاستاذنا نجيب محفوظ!! مثلا دعوني اتسأل في سذاجة: أين آخر أوراق كتبها بخط يده؟ وأين آخر قلم امسكه وكتب به؟ وأين ملابسه وعكازة ونظارته؟ وأين مكتبته وكتبه ومراسلاته وخطاباته؟ وأين الكتب التي عليها أهداءات الكثير من الأدباء المصريين والعرب والعالميين؟ وأين أرشيف صوره؟ وأين كلماته وآراره التى لم يكتبها في رواياتنه او مواقفه وكلماته التى كان يتجاوب بها معنا..!!
وأنا هنا لا لا أهاجم شخص بعينه أو مجموعة أشخاص كما لا اريد تجريح احد، ولكني اخشي ان اجد مكتبة نجيب محفوظ؟ مثل مكتبات كثيرين من ادبائنا لدي بائعي الروبابيكا..
أننا نعلم قيمة ومقدار استاذنا نجيب محفوظ، وما نطلبه أن يقام ليس صعبا ولا مستحيلا؟ بدلا من التشدق بذكراه او ننتظر بعض الضفادع تنقن بين الحين والاخر، وكأن نجيب محفوظ ملك لهم وهم الورثته الشرعيون له ولا يجوز لاحد ان يتحدث عنه..
لا: نجيب محفوظ ملك لنا جميعنا، ويجب أن ننتبه لما يحدث له الآن، أمام هذا الطوفان الكبير من تفريغ الأمة من رموزها وعظمائها.
ونحن هنا – واقصد جيلي – وكل المصريون الذين يعشقون تراب هذا الوطن، ويحبون رموزه- بكل مللهم وطوائفهم، لا.. لن تظل الضفادع تحيط بنا وبرموزنا، ولن تظل “آفة حارتنا النسيان“ كما قال مؤرخ وكاتب الحارة المصرية ..عمنا وأستاذنا: نجيب محفوظ.