تغريد أبو شاور
نحن الذين لا نعرف أن نعيش أشباه الحياة وأنصاف الحلول، ولا في المناطق الرمادية في الحروب، ولم نكن نملك من الحياة، وما زلنا، سوى وجهنا الأول والأخير، وعلى الرغم من أنني أجيد تلوين الوجوه واخفاء نتوءاتها وكشف تصبغاتها؛ إلا أنني لم أجد فعل ذلك مع الحياة..
وبالرغم من أني أشذب حواجب النساء، وكوني بارعة في نمص الزائد منها ورسمها بما يتناسب مع شكل الوجوه، في استداراتها أو طولها، إلا أن هذا كان محفزا لأرى الحياة وأتعامل معها بكل ما فيها من فجاجة وعطن ورطوبة..، وأن أعيشها كما هي.
نحن الذين لا نمشي إلا على الأرصفة، ونحترم إشارات المرور، كم مرة قطعتنا السيارات ودهست ظلنا، وخطفت ضحكاتنا؟.. نحن الذين لا نتعايش مع الزوايا الحادة ولا المنفرجة، وننام في الزوايا القائمة بكل استقامتنا.. نحن الذين..
هذه رسالة أخرى يرميها “جو” في شباك “صوفي” المفتوح عن آخره في ظهيرة يوم الأحد.
تقرأ صوفي رسالة أمها مرات كثيرة، وتطويها وتخبئها في بطن لعبتها الأخيرة التي أهدتها إياها قبل أن تنفصل عن أبيها، في عيد ميلادها السابع، ثم تغلق النافذة بهدوء قبل أن تناديها زوجة أبيها، التي اعتادت أن تفزعها بصوتها الحاد كلما أوت إلى غرفتها، بعد أن تكون قد أنهت عملها اليومي المتعب، المكرر من الصباح منذ خروج والدها عند السابعة حتى رجوعه ليلا عند العاشرة، بعد أن تتوسلَ إليه شوارع عمان راحتها من صخب سيارات الأجرة.
صوفي الصبية التي تجاوزت الآن الخامسة عشرة، وتبدت ملامحها المختلطة بين شقراويتها الروسية، وملامح والدها العربية، كانت متميزة عن بنات جيلها في جمالها ورجاحة عقلها، وانشغالاتها، وفي تحملها لأدى زوجة أبيها، وتجبر جدتها عليها، وإهمال والدها وسلبيته في التعامل معها.
تُنهي صوفي واجباتها المنزلية، وتعود لغرفتها تحاشيا لتقريع زوجة أبيها أو لضربها الذي تتعرض له كلما لاح شهر وانقضى آخر.. زوجة أبيها التي لا تزال على حالها منذ ثماني سنوات، دون إنجاب.. تظن أن أم صوفي الروسية قد قامت بعمل “عمل” لها، يحرمها من الإنجاب؛ لذلك تُفرغ بها غلَّ عزوف الحبل عنها، وتنكُّر الأمومة لها..
تحملت صوفي ضنك العيش وضيقه وظلمه، فقط حتى تبلغ السن الذي تستطيع فيه أن تتملص من وصاية والدها الذي أرغم أمها تحت الضرب بالتنازل عنها. تكتب لأمها رسالة، وترميها لجو ابن خالتها الذي يدرس اللغة العربية بإحدى البعثات في الجامعات الأردنية، وتلقي بها من النافذة طالما أنها في العطلة الصيفية، موسم حبسها الانفرادي في المنزل، حيث لا ترى سوى بؤس زوجة والدها، وفظاظة والدها، وميوعة أخو زوجة أبيها.
من هؤلاء الثلاثة تهرب لتكتب رسالتها لأمها، وتكذب كذبات خفيفة، كي لا تحزنها في غيابها
- ماما، أنا بخير، اليوم قرأت كتابا جديدا تركه لي جو، واشترى لي بابا ثوبا زهريا، وهو الآن يفكر بطريقة لأزورك، قد تغير بابا منذ زمن وتحول عن فظاظته وإهماله.
أما الحرباية، فهي لا تلبث تحاول أن تصير جميلة، تقف أمام المرآة لساعات في آخر المطاف تخرج كالجنية التي كنت تخبريني عنها في القصص قبل نومي..
تخيلي ماما أنها ما زالت تلبس فستانا أحمر، وتضع الكثير من المساحيق التي لا تناسب عمرها على وجهها، حتى صارت صديقاتي في المدرسة يُلقِّبنَها بعروسة العيد.
ماما، كم أنت جميلة وكم هي بشعة، وكم أنت أنيقة وكم هي متوحشة!
“جو” يا ماما أصبح شابا وسيما، وشقرته تلفت نظر كل من في الحي.. ضحكته جميلة جدا، تشبه ضحكة خالتي “نينا”، أغبطه لأنه ما زال يعيش مع أسرته بين خالتي وزوجها.
ماما، هذه الخالة المتوحشة تجلس ساعات مع أخيها المائع، الذي تدلـله ككلب أحمق، أكره حضوره للمنزل، لأن حضوره يعني المزيد من الخدمة المقدمة له، ورفاهيته تكون على حسابي، هو إنسان كريه كلما رآني، دلق الماء والشراب وقشور المكسرات على الأرض وذلك لأقوم بتنظيفها مجددا،
ماذا أفعل ماما؟ أخبرتها كثيرا بقلة أدبه وسوء تصرفاته، لكنها كانت تشتمني، وتهددني أن تخبر والدي بشباكي الذي أجلس إلى جانبه عند المساء، كان سهلا عليها أن تسرق هدوء والدي وتقلبه علي بكلمة واحدة.
ماما سأخبرك بالكثير، الآن جاء كلبها المدلل سأكتب لك فيما بعد…
لم أكن أدري لماذا كانت تتركني مع أخيها المعتوه في البيت، لم أكن أعلم لماذا كان يرمي كل بقايا الأكل على الأرض، ولماذا يطلب مني تنظيفها أمامه، ولماذا تجعلني أقف لتنظيف الشبابيك وهو يستمتع بمشاهدة التلفزيون، إلا في أحد الأيام التي خرجت خالتي من البيت وغمزت له، فألقى كعادته بقايا الأكل وطلب مني أن أنظف الأرض، وما أن أقعيت أمامه إلا وأحسست به يشدني من ظهري، ويمسك بمنديلي الذي تتدلى منه خصلات شعري، رفسته بقدمي حتى طرحته أرضا، واختبأت في غرفتي أرتجف كغصن في الريح.. لم أخرج من غرفتي إلا حينما عادت الخبيثة وبدأت بالصراخ علي، عندها، أخبرتها بما فعل أخوها، ضحكت بصوت مرتفع وقالت: من سيصدقك يا بنت الروسية؟
كتمتها في قلبي، وغادرت، حينما جلست في غرفتي، أسترجع ما فعله كلبها المدلل، وحدستُ ما كان يعينه كل تصرف كان يرغمني عليه، بحجة تنظيف الأرض، رجرجة جسدي، وتعمده سحب منديلي عن رأسي، وكذا خروج أخته من المنزل الذي لا ينضوي الإ عن مقصد خبيث، ومعرفتها أن أبي لن ياتي ولن يصدقني أبدًا.. كل هذا جعلني أن أكون أكثر حذرا وأكثر قوة، وقاسية بردي إن لزم الأمر.
في اليوم التالي، أعددت الفطور لوالدي، وخرجت هي لزيارة الطبيب، نظفت المنزل، واستنشقت هواء نظيفا لأول مرة.. عدت لغرفتي كي أكتب رسالة طويلة لأمي، فتحت نافذتي ووضعت منديلي بجانبي، واستلقيت على سريري كفراشة اهتدت لوردتها الآن، فتحت بالمفك بطن لعبتي، وبدأت بكتابة رسالة لأمي، وما أن بدأت بالكتابة حتى أحسست بباب غرفتي يغلق بعنف، وكلبها المدلل يهجم عليَّ فوق السرير، ويشد على صدري بجسده وينخر كثور رموا أمامه منديلا أحمر.
قاومته بكل قوتي، وأخذت أركله بقدمي، التي أحكم حركتهما بين قدميه، حاولت أن أصرخ لكنه هددني بالفضيحة، عندما فجاة تذكرت ما قالته أمي، “ألا نقبل أنصاف الحلول، ولا العيش في المناطق الرمادية” كل شي انفلت أمامي كضوء منحبس، لمع إبريق أمي النحاسي في عيني، خلصت يدي من تحت جسده الهائج، وبكل عزمي ضربته في رأسه، الذي صار كنافورة وسط ساحة عامة، ألقيته عني، وظل ينز الدم من رأسه، وأنا أنظر إليه بكل برود، بكل هدوء غيرت ملابسي، وأخدت لعبتي، ومضيت نحو “جو”، أخبره بكل فرح أنني أتممت السادسة عشر .
…………….
*كاتبة من الأردن