محمد المسعودي
خرجت من المسجد بعدما صليت صلاة العشاء وبعض ركعات من صلاة التراويح. وقفت عند بائع مجاور لباب المسجد الحديدي يفترش الأرض أتملى في بلغات (نعال) فاسية يعرضها، حملت بلغة زرقاء اللون تناسب لون الجلباب الذي اشتريته منذ أيام قليلة، كنت سأشرع في مساومة البائع، لكن حينما رفعت رأسي نحوه، ونحو الأدراج التي تفضي إلى الباب الخارجي الحديدي الذي أقف عنده، لفت نظري رجل كهل طويل القامة يهبط بتثاقل وفي خطى قصيرة حذرة، ربما بسبب تقييد الجلباب المغربي الأبيض الذي يرتديه لخطواته الواسعة، وكان ينتعل صندلا هنديا (مما نطلق عليه باكستانيا عندنا)، اعترتني دهشة، وقلت في نفسي:
“غريب… أليس هذا الرجل هو الممثل الهندي أميتاب باشان؟! ما الذي جاء به إلى مسجد الإماراتي بطنجة؟! هل أسلم الرجل ومتى؟! وكيف لم يُثر الإعلام ضجيجا وعجيجا يتعلق بالأمر كدأبه حينما يستجد جديد في حياة المشاهير؟!”.
كان الرجل يُرخي على جزء من وجهه (قب) الجلباب الأبيض الحريري، ربما كان يتخفى بهذه الطريقة حتى لا ينتبه إليه الناس، لكنني عرفته من خطواته، ومن قامته الفارعة، ونظرة عينيه. خرج من الباب منحدرا شمالا في عقبة زقاق يفضي إلى شارع رئيس. أمسكت بيدي فردة بلغة، وخاطبت البائع، وأنا أمد إليه الفردة الأخرى:
-“اترك عندك هذه… وأنا سأترك لدي الفردة الثانية حتى لا تبيعها… سألحق بذلك الرجل الطويل القامة هناك.. (وأشرت جهة الزقاق) وأعود إليك..”.
أمسك الرجل فردة البلغة، وهو ينظر إلي بنظرات استغراب لا يكاد يصدق ما سمع، بينما هرولت أجتاز العقبة الصغيرة لألحق بالممثل الهندي قبل أن يغيب عني. لما حاذيته، التفت إليه، وحييته باللغة الإنجليزية، رد التحية، ووقف ينتظر ما سأقول، خاطبته، وأنا أتفرس في ملامحه:
-Excuse me! can I speak with you for five minutes
أومأ برأسه دلالة القبول، وقد علت ملامحه شبه ابتسامة. قلت:
-You are the famous Indian player (actor?) Amitabh Bachchan, aren’t you?
اتسعت ابتسامة الرجل وازدادت عذوبة، وقال بإنجليزية ذات لكنة إنجليزية خالصة عكس إنجليزيتي المتهافتة المخارج:
-What do you want sir ? can I do anything for you?
– Just I like to take a photo with you.. I love your movies.. I have seen all your movies…
حرك الرجل رأسه صعودا وهبوطا دلالة الموافقة، وهو يتفرس في وجهي بإمعان، وابتسامته تزداد اتساعا. ناديت أحد الشباب الصغار الخارجين من المسجد طالبا منه أن يقترب منا ليأخذ لنا صورة، وأنا أدس يدي في جيب سروالي الخندريسي باحثا عن هاتفي المحمول، لم أجده. وتذكرت أني أتركه بالبيت دائما كلما كنت ذاهبا إلى المسجد. اعتذرت للشاب الذي تابع طريقه، واستدرت نحو (أميتاب باشان) لأعتذر منه، لكنه بادرني بطنجاوية معتقة:
-أخاي محمد… أولد السي علي.. باقا فيك التلفة د صغور.. متبدلتشي..
وأردف كلامه بقهقهة عالية، ذهلت وأنا أسمع اسمي واسم شهرة خالي محمد الذي عُرف مقهاه بحي باب مرشان باسم مقهى السي علي، وتذكرت (القصير) ذلك الفتى الذي يكبرني بأكثر من عشر سنوات، وابن السي (محمد الفحام) صديق خالي محمد، وجارنا في السكن والعمل، إذ كان حانوت بيع الفحم يواجه المقهى. كان حميد يشبه الممثل الهندي في وسامة وجهه، وسواد شعره وملاسته، وفي خطواته الواسعة حين يمشي، وفي إتقانه للرقصة الشهيرة التي اشتهر بها (أميتاب باشان)، وكنا نحن فتيان الحومة نلقبه ب(القصير) تمييزا له عن الطويل الذي لا طويل آخر يُعرف بهذا اللقب سواه بين فتيان ومراهقي طنجة ممن يعشقون السينما الهندية؛ بينما كانت فتيات حومتنا تطلقن عليه نعت (ارحيمو بوسميطة)، لأنه كان مولعا بارتداء ملابس ذات ألوان متعددة، وكان يمنطق سراويله بحزام لامع متعدد الألوان لا يغيره كلما جاء لزيارة والده، ولأنه كان يشاركهن ألعابهن جميعا: كرومو، والنط على الحبل، و(اشريطة) القفز على المربعات المرقمة. أما أخوه الأكبر عبد الرحيم، فكان أشقر الشعر، يتركه يسترسل طويلا على كتفيه، قوي العضلات، فارع الطول مثل أخيه، وكان لاعب كرة ماهر استقطبته بعض أشهر فرق الأحياء بطنجة، مثل: المغرب والحسنية والعلم، وكنا نلقبه ب(كرويف) على اسم اللاعب الهولندي الشهير. وطالما رافقته إلى ملعب مرشان لمشاهدته وهو يلعب، وكنت أدخل رفقته إلى مقر اللاعبين، وأجلس في (البانكيو) مع اللاعبين الاحتياطيين، كما كان يصاحبني للفرجة في فريق (النهضة) الذي كنت أحب لاعبيه وأبذل كل المحاولات الممكنة لكي لا أضيع أي مباراة له تجرى بملعب مرشان. استرجعت هذه الذكريات في لمح البصر، وأنا أقول لمن حسبته الممثل الهندي:
-أنت حميد.. ولد با محمد الفحام.. وأخ عبد الرحيم.. أنت (القصير)..
واقتربت منه أضمه إلي، عانقني بدوره عناقا حارا، وهو يطلق قهقهته المميزة، ويقول:
-نعم.. أنا هو.. وأنت ابن عمي احمد.. وخالك السي علي.. رحم الله الجميع… عرفتك لما بدأت تتكلم معي..
-وتركتَني أهرتل (أثرثر) معك بإنجليزيتي المبعثرة.. وأترجاك بها لأخذ صورة معك.. وأنا أظنك الممثل الهندي وقد اهتدى إلى الإسلام… ههههه.
واصل قهقهته، وهو يكمل:
-كنت أتمتع وأنا أرى رجلا مثلك يجاهد لكي يكلمني بالإنجليزية… وأنا أسترجع صورة طفل في حوالي الحادية عشرة أو الثانية عشرة يقتحم أفواج السياح وهو يلقي بكلمات تعلمها مني ومن رواد مقهى خاله.. والله أرجعتني إلى أيام لن تتكرر في طنجة… هههه.
أمسكت بيده، وقلت له ملوحا بفردة البلغة التي بيدي:
-ستعود معي عند البائع لآخذ البلغة، ثم ترافقني إلى مقهى قريب من هنا أجلس به دائما.. هل ممكن؟
تأبط ذراعي، وصرنا نصعد العقبة عائدين نحو باب المسجد. لما رآني البائع تهلل وجهه، ربما حسب أنني لن أرجع إليه. ناولته الفردة التي عندي وطلبت منه أن يضعها وأختها في كيس، لم أناوشه كثيرا في الثمن، أخذت ما اشتريت، وسرنا أنا و(القصير) إلى مقهى (جاردن آيس)، كان ما يزال يتأبط ذراعي حينما دخلنا المقهى، رأيت بعض الوجوه المألوفة عندي من الزبناء ينظرون بإمعان إلى الرجل الطويل القامة الذي يصاحبني. اخترنا طاولة في زاوية منعزلة. قدم لنا النادل ما طلبنا. وغرقنا في حديث مسترسل عن بنات وصبيان حومتنا، وعن مصيرهم، وعن الآباء والأمهات، وعن طنجة كيف كانت وكيف استحالت مسخا لا أصل ولا ملامح له. عرفت أخبار أخيه عبد الرحيم، وأشياء أخرى عنه وعن سر اختفائهما من الحي، وكيف لم ألتق به من قبل إذ عاد إلى طنجة. جاء المشرف على المقهى ليسلم علي كعادته، وهو رجل دمث الأخلاق، طلق المحيا، يقدر زبناءه، يطأطئ رأسه في خجل، ويحترمني كثيرا، لأني صحبت معي كثيرا من الأدباء الذين زاروا المدينة إلى مقهاه، سألته:
-السي سعيد… هل معك الهاتف؟
-نعم…
وأخرجه من جيب سرواله.
-نسيت هاتفي بالبيت… هل يمكن أن تلتقط لي صورة مع (أميتاب باشان)، ثم أرسلها إلي بالوتساب؟
رفع سعيد رأسه، وهو ينظر في ذهول إلى (القصير) الذي رفع قب الجلباب عن وجهه. رجع إلى الخلف، وتهيأ لأخذ الصورة. لما قام بالتقاط الصورة خاطبني قائلا:
-التقط لي صورة، أيضا، مع الممثل.. هل ممكن..
-بكل سرور..
نهضت من كرسيي وتركته له، لكنه أوقفني، وطلب مني إشارة العودة إلى مكاني. وطلب من نادل المقهى أن يأخذ لنا صورة ثلاثية، بعدما جر كرسيا آخر. التقط النادل الصورة وانصرف هو وسعيد الذي قال يخاطبني:
-لما تعود إلى البيت ستجد الصورتين قد سبقتاك.
ولكن الذي سبق هو الهمس بين الزبناء بأن (أميتاب باشان) يجلس مع الأديب الأستاذ محمد الذي يظهر في قناة الجزيرة. وهكذا صار رواد المقهى يلقون بنظرات استغراب نحو زاويتنا، و(القصير) حينما فطن لما يدور حوله غير لغته نحو الإنجليزية، في إتقان لدوره التمثيلي الذي طالما أمتعنا به في مراهقته، وهو يتحدث لي عن مشاهداته الكثيرة في بلاد الهند، وعن تجارته، وعن زوجته الهندية المسلمة، وعن أطفاله الذين توزعوا بين إسبانيا حيث يقيم عمهم عبد الرحيم، وبين الهند، وكندا.