صوت العود

rahhal kreesh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رحال كريش*

بدأت علاقتي مع العود منذ طفولتي، يوم كان أبي يضع راديو ترانزستور صغيرًا على حافة شباك الغرفة، ويفتح على إذاعة الأغاني في المساء. كان عبد الوهاب يملأ البيت بصوته، وكانت أمي تجلس تخيط ثوبًا على ضوء لمبة صفراء، بينما أبي، الذي لم يكن يعرف العزف، يضرب بأنامله على حافة الكرسي كأنه يرافق الفرقة الموسيقية.

كبرتُ وأنا أحمل في أذني ذلك الصوت الدافئ للعود. لكني لم أتعلم العزف أبدًا. ربما لأن أبي مات مبكرًا، ولأن أمي لم تهتم بالموسيقى قدر اهتمامها بأن أدرس وأحصل على وظيفة محترمة. لكن شيئًا في داخلي ظلّ يسمع العود في الخلفية، في كل لحظة فرح أو حزن، كأن أوتاره صارت جزءًا من صوت حياتي.

ومضت السنوات. صرت يساريًا مثل كثير من جيلي، قرأت ماركس ولينين أكثر مما قرأت المتنبي والجاحظ، واعتقلت مرة في مظاهرة لم نكن نعرف أصلًا لماذا نهتف فيها. ثم خرجتُ، وابتعدتُ عن السياسة شيئًا فشيئًا، حتى انتهى بي الأمر موظفًا في مركز ثقافي، أكتب مقالات متفرقة عن السينما والمسرح، وأمضي وقتي بين الكتب القديمة والعروض التي لا يحضرها أحد إلا المتقاعدون والطلاب.

هناك، في قاعة المركز، ظهرت هي.

ليلى.

كانت تحمل عودًا حقيقيًا، لا عود الراديو الذي عرفته في طفولتي. جاءت لتدير ورشة عن الموسيقى في قاعتنا البائسة التي لا يدخلها أحد إلا بالصدفة. يوم رأيتها أول مرة، كان في وجهها شيء من التعب، لكن في عينيها ضوء غريب، يشبه ضوء من يعرف طريقه وسط العتمة. جلست على المنصة الصغيرة، وبدأت تدندن بلا مقدمات. في لحظة، امتلأت القاعة بالصوت الذي ظلّ يلاحقني منذ طفولتي، لكنه الآن صار حاضرًا، واضحًا، يصدر من بين يدي امرأة لا أعرف عنها شيئًا.

لم نكن نتكلم كثيرًا في البداية. لكن شيئًا غريبًا بدأ يحدث: أفكر فيها، فتصلني رسالة منها على فيسبوك تسألني عن مقال كتبته. أسمع صوت العود في داخلي، فأجدها تمرّ بجوار مكتبي في المركز وتلقي التحية بابتسامة. كأن بيننا سلكًا خفيًا ينقل الإشارات دون إذن من أحد.

كنا نلتقي أحيانًا بعد الورش في مقهى قريب. نتحدث عن الموسيقى والفن، وعن السياسة التي صارت بالنسبة لي عبئًا، وبالنسبة لها نكتة ثقيلة. كانت تصغرني بأكثر من عشر سنوات، وأنا الذي لم أفكر يومًا في الارتباط، وجدت نفسي أستمع إلى ضحكتها كأنها تعيد ترتيب الوقت في داخلي.

في إحدى المرات، احتدم النقاش في الورشة حول لحنٍ قديم أرادت هي أن تعيد توزيعه، بينما قال بعض المشاركين إنه “مقدس” لا يجوز الاقتراب منه. دافعتْ هي عنه بحماسٍ غريب، كأنها تدافع عن حياتها نفسها، ووجدتني فجأة أغار من ذلك اللحن، من علاقتها به، من شغفها وهي تتحدث عنه.

صرت أضحك مع نفسي، وأقول لها في الرسائل: “لقد خطفك عودك منا اليوم.

فتجيب مازحة: “العود فقط؟ ربما أنت أيضًا.”

لم أكن أعرف ماذا أفعل بهذه الإشارات، بهذه الدقات الخافتة في قلبي وأنا في الحلقة الخامسة من العمر، وهي التي لم تتجاوز منتصف الأربعين. كنت أعيش حياتي كلها كموظف يتفرج على الآخرين من بعيد، فجأة وجدت نفسي في قلب فيلم رومانسي لم أكتب له السيناريو بنفسي.

في كل مرة كنا نجلس فيها في المقهى، وأسمع صوت العود في التسجيلات القديمة وهي تضع السماعات على أذنيّ، أشعر أن حياتي كلها كانت تدريبًا لهذه اللحظة، وأن صوت العود ليس مجرد موسيقى، بل خيط خفي يربط بيننا، بين طفولتي البعيدة وشيخوختي القادمة، بين رجلٍ خائف وامرأة تعرف ماذا تريد.

لا أعرف إلى أين سيأخذنا هذا الخيط. لكني أعرف أن صوت العود الذي بدأ في بيت أبي على الراديو، صار الآن يأتي من قلبها مباشرة، وأن قلبي، الذي ظلّ صامتًا طيلة هذه السنوات، بدأ أخيرًا يتعلم العزف.

………………..

*كاتب من المغرب

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
نور الهدى سعودي

أذن الضوء

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

العقرب