معتصم الشاعر
كان الروائي العربي في معرض الكتاب يحملق في الزوار وفي أيديهم روايات عالمية مترجمة، البعض اشترى أكثر من خمس رواية، أطفال اشتروا عددا من روايات هاري بوتر، كان بجوار ناشرة رواياته ينتظر من يطلب منه التوقيع، قال لها:
-” إذا كانوا يحبون الروايات هكذا، لماذا كل تركيزهم على الروايات المترجمة، رغم أن معظم الترجمات ركيكة، الرواية العربية قطعت أشواطاً، ولا تقل عن الأجنبية إن لم تتفوق عليها؟”.
قالت الناشرة:
-” صحيح، لقد فعلنا ما علينا، إننا نتعامل مع أفضل مصممي الأغلفة، و……”.
وفي هذه اللحظة أتى قارئ يسأل عن رواية لستيفن كينج، قالت له:
-“للأسف لم نشتر حقوق ترجمة كينج، لكن عندنا روايات عربية، وهذا هو الروائي الكبير…….، هل تريد بعضا من مؤلفاته؟”
سأل القارئ:
-“أنا أفضِّل روايات الرعب، في أي الأنواع الروائية يكتب أستاذنا؟”.
تلعثمت الناشرة، نظرت إلى الروائي، اضطرب هو الآخر وقال:
-“أكتب الرواية عموما وأهتم بالدهشة وبناء الشخصيات واللغة الراقية والتأملات الفلسفية، أحد النقاد أحصى في رواية ….. حوالي ألف اقتباس يمكن نشره في فيسبوك”.
ضحك القارئ وقال:
-“يعني، روائي عمومي، الروائي العمومي كالطبيب العمومي، إنه موضة قديمة، نحن في عصر التخصص في كل شيء، على العموم تشرفت بمعرفتك، إذا كتبت رواية رعب سأقرأها بكل سرور”.
مضى القارئ يبحث عن رواية رعب لستيفن كينج، وترك كاتبنا لصدمته.
أردت أن ألفت الانتباه من خلال الحكاية السالفة، إلى مسألة مهمة في الرواية العربية، ألا و هي مسألة غياب أو عدم الاهتمام بالأنواع الروائية، فغالبا ما يتم التعامل مع الرواية ككتلة متجانسة لا تصنيف لها، الأمر الذي يؤثر سلباً على تجربة القارئ، وصناعة الجمهور، وتسويق الكتاب، فالقارئ يشتري الرواية العربية ولا يعرف إن كانت تنتمي إلى الفنتازيا أو الرعب أو الجريمة أو الخيال العلمي أو أي نوع آخر، إلا بعد أن يكمل الرواية، وقد يكملها ولا يستطيع تصنيفها لتعدد الثیمات، لأن معظم الکتاب یتعاملون مع الروایة کوعاء جامع يمکن أن یحوي كل شيء من أحداث الحیاة والفنون الأخری وما أنتجته العلوم الإنسانیة، وربما يعود هذا إلى عمر الرواية العربية القصير نسبيا، فالعرب أمة شاعرة، ولذلك عرف الشعر التصنيفات منذ قرون، فاشتهر بعض الشعراء بالغزل أو الحكمة أو الحماسة أو المدح أو حتى وصف الخمر، الأمر الذي لا نجده في الرواية العربية بوضوح. فهنالک غياب واضح لتصنيف الأنواع الأدبية في الرواية. فنادراً ما نجد تعريفاً واضحاً أو إطاراً يحدد نوع الرواية العربية، وهذا في رأيي نابع من فرضية الشح في القراء، معظم صناع الثقافة يفترضون أن أعدادا قليلة هي التي تقرأ، ولذلك لا نميل إلى تضييق قاعدتنا عبر حصر العمل الأدبي في تصنيف ضيق، متجاهلين تفضيلات القراء.
إن افتقاد الهوية الأدبية له تأثير على تجربة القارئ ولا شك، هذا سيجعله في حيرة عند اختيار ما يناسبه من كتب على أساس التجربة التي يريد أن يعيشها، قد يحب كاتبا معينا، لكن على العموم، ليس لديه أية توقعات بشأن الكتب التي يقرأ عناوينها في المعارض أو على رفوف المكتبات. وإذا کانت المقارنة بیننا والغرب ضروریة في هذا السیاق، فسنقول إن الروایة هناک تُصنَّف بشكل واضح في فئة معينة ویتخصص معظم الکتّاب في نوع روائي واحد یعرفه به القراء، فنحن نعرف، علی سبیل المثال، ستیفن کینج ککاتب لروایات الرعب، وأجاثا کریستي في الروایات البولیسیة و ج ک رولینج في الفنتازیا، ومارکیز في الواقعیة السحریة، ویکون العرض في المکتاب والمعارض ومواقع بیع الکتب الإلکترونیة کأمازون مرتَّبة علی هذا الأساس، مما يسمح للقارئ بمعرفة ما إذا كانت الرواية تنتمي إلى نوع الخيال العلمي أو الأدب البوليسي أو غيره، فیکون هذا التصنیف کالبوصلة التي تساعده علی اتخاذ قراراته الشرائیة بناءً علی تفضیلاته النوعیة وتجاربه السابقة في القراءة وکُتَّابه المفضلین، التصنیف أیضا یُسهّل علی دور النشر مسألة الترویج للروایة المعینة في حملاتها التسویقیة التي تسعی لانتشار الروایة وجذب أکبر عدد من القراء الذين یفضلون نوعها، وتحقیق أکبر قدر من العائدات. أما في العالم العربي، قد یوجد في مکتباتنا قسم خاص بالروایة العربیة عموما، وقد تُصنف الروایات بحسب مٶلفیها، وعلی القارئ أن یکتشف ما یرید بالنظر إلی العناوین وما تثیر في نفسه من فضول، فقد یختار رواية دون معرفة سابقة بنوعها الأدبي، مما يزيد من احتمالية عدم توافقها مع ذوقه، وبالتالي قد يؤدي إلى عزوفه عن قراءة المزيد من الأدب العربي، وربما هذا أحد أسباب اتجاه البعض للأدب الأجنبي المترجم.
التسویق في غیاب الأنواع الروائیة:
إن غياب الأنواع في الرواية العربية يجعل عملية تسويق الكتاب أكثر تعقيداً ويحد من قدرة دور النشر- التي لم تتطور هي الأخرى- على توجيه رسائل ترويجية فعالة للجمهور المناسب.
غیاب الأنواع وصناعة الجمهور: إن عملیة صناعة جمهور والمحافظة علیه واکتساب المزید عملیة شاقة، تحتاج إلی الترکیز علی تفضیلات القارئ، ومسألة التفضیلات هذه هي الرکیزة الأساسیة التي تنتهجها المواقع الإلکترونیة للتأثیر علی کل فرد بتتبع تفضیلاته، وضخ المزید من المحتوی المشابه إلیه، وغياب الأنواع لا يساهم في الاستهداف القصدي لقارئ محدد یستطیع صناع الکتاب أن یتخیلوه، فالروایة التي بلا هویة لا بد لها من قارئ بلا هویة أیضا، وللمقارنة، في الأسواق الغربية مثلا، ينشأ حول كل نوع أدبي جمهور محدد يتمتع بشغف وتوقعات واضحة تجاه ما يقرأ. هؤلاء القراء يصبحون نواة لزيادة شعبية النوع الأدبي الذي يحبونه، ويشجعون على نموه وتطوره.
تطور تجربة الکاتب في غیاب الأنواع:
أما بالنسبة لتطور تجربة الكاتب، في غياب التصنيفات الأدبية، يعاني الكاتب العربي من نقص التحديات الفنية والإبداعية التي قد تشكلها كتابة أنواع معينة من الأدب. الكتابة ضمن نوع أدبي محدد تتطلب مهارات خاصة ومعرفة دقيقة بالقواعد والأسس التي تشكل هذا النوع وتوقعات القراء عنه. على سبيل المثال، كتابة رواية خيال علمي تستدعي فهماً عميقاً لعناصر العلم والمستقبل، بينما كتابة رواية بوليسية تتطلب قدرة على بناء الحبكة المعقدة وحل الألغاز. غياب هذه التصنيفات يجعل الكاتب العربي في كثير من الأحيان يكتب بلا إطار واضح، مما يؤثر على مستوى الإنتاج الأدبي.
غیاب الأنواع والترجمة:
أحيانا نتساءل: لماذا لا يحظى الأدب العربي بالترجمة التي تليق بكثرة الإنتاج، لا شك أن هنالك عوامل عديدة، من بينها غياب تصنيف الأنواع الأدبية في الرواية العربية، فهذا يجعل من الصعب على الأدب العربي الانفتاح على السوق العالمي بشكل فعال. الجمهور الغربي يميل إلى متابعة أنواع محددة من الأدب، ويبحث عن تصنيفات واضحة تسهل عليه اختيار الكتاب المناسب. الأدب العربي، الذي يفتقد لهذا التنوع في التصنيف، يواجه صعوبة في تقديم نفسه بالشكل الذي يتماشى مع تطلعات هذا الجمهور، مما يؤدي إلى ضعف انتشاره عالمياً، إلا إذا ساعدتنا تلک الأسواق في إبداع نوع جدید یُسمی بالروایة العربیة وصناعة الجمهور اللازم له.
خلاصة القول، إن غياب تصنيف الأنواع الأدبية في الرواية العربية ليس مجرد مسألة شكلية، بل يمثل تحدياً كبيراً أمام تطوير الأدب العربي، وصناعة جمهور قارئ له، وتحقيق نجاح تجاري في سوق الكتاب. إن إدخال التصنيفات الأدبية في الرواية العربية قد يكون أحد السبل لتطوير هذه الصناعة، وإيجاد جمهور أوسع وأكثر تنوعاً، والارتقاء بمستوى الإبداع الكتابي. على الناشرين والكتاب والمثقفين العرب أن يعملوا على تعزيز هذا الاتجاه، لبناء بيئة أدبية أكثر تنوعاً وتطوراً.