كارينا ساينز بورغو
ترجمة: نجلاء الجعيدي
فى الممرات الضيقة بين العميلة والأخرى، كانت (الويسا) تمسح الأرضيات لتزيل بقايا شعر مبلل -بضع شعيرات، لكن وجودها يعطي انطابعا مقززا- قامت بتجميعها على شكل كومة صغيرة بجاروف بلاستيكي ثم أعادت المكنسة إلى الدولاب وشربت كوباً من الماء على عجل.
تنتظر سيدتان فى الرواق: إحداهما الجارة (هيرمينيا)، تسكن بالدور السادس، السيدة ذات الثمانين عاما، التي لم تعد تتذكر الإسبانية مؤخرا، لكنها أصبحت تتحدث بالكتالونية، من ثم عين لها أولادها جليسة بالمنزل، أما الأخرى فهي محامية بمكتب المحام العام تسكن بناصية الشارع ذاته، معروفة من الجميع حيث أنها تعمل على دعاوى الطلاق، وعلى توثيق الرهونات العقارية أيضا، وتنفيذ المصادرات.
بينما كانت السيدة هيرمينيا تجلس منتظرة على كرسي غسل الشعر تبدو كأنها بومة، كانت المحامية القلقة تنظر إلى ساعة يدها، وتمسّد شعرها باستمرار وتغير مكانها بين الحين والآخر، متأففة بنفاذ صبر حيث عليها خلال ساعة أن توثّق عقدا، ثم تلتقي بخصم أحد العملاء لديها، لكن للأسف شعرها غير مهندم ولا يوجد أى شخص آخر ليقوم بعملها؛ فالشعر ليس بشعر، أنه يبدو ملبّدا كأنه خُلط بسكاكر.
– بالكاد أصبح لدى شعر أليس كذلك.
تعيد الجليسة السؤال على هرمينيا مرارا، هرمينيا التي أصبحت صماء كحجر، حتى بالكاد في النهاية استطاعت أن تفهمها.
– ثم ردت هرمينيا: كنت أحبه أكثر عندما كنتِ بالشعر الطويل، مشيرة إلى المحامية بسبابتها التي يبدو أنها تعاني من آثار العجز.
تحاول المحامية التجاهل، لكن تخرج منها ضحكة صفراء، ولكنها تُصر على الاستطراد وهي تحدّج في المرآة: “كان ذلك بسبب جلسات العلاج الكيماوي، مرت ستة أشهر فقط، لكن قد نما من جديد سريعا أليس كذلك. “
لم تكترث هيرمينيا لقصة الجليسة، ولا لشعرها، ولا لجلسات علاجها، حتى أنها لا تهتم بإصابتها هي شخصيا بالصمم، ولا بمعاناتها مع النسيان؛ فأحيانا لا تدرك في أي ساعة، أي يوم، أو حتى في أي مكان تكون، فالأمور سيان بالنسبة لها، حتى أن المهم لم يعد مهما؛ فلم تعد حتى تهتم لأمر أولادها، فأصبح كل ما تفكر به هذه العجوز، كيف أن ثمار الوحدة تُغرس بداخلها أكثر وأكثر.
تستفيق هرمينيا على صوت الجليسة تنبهها أن السيدة المحامية تسأل عن رأيها في شعرها هل أفضل وهو طويل أم قصير.
– لديكِ 4 كومات من الشعر المجعّد، تقول هرمينيا بلهجة غير مفهومة.
– ترد الويسا، التي تحضر المشهد وهي بجوار الدولاب لتخزن الصبغات: يا إلهي ها قد عدت من جديد إلى الكتالونية.
– ماذا تقول؟ لا افهمها، تتساءل السيدة على كرسي الحلاقة.
– تتدخل الجليسة قائلة: كانت تتمنى لو تحظى بشعر كهذا.
بينما تتثاءب هرمينيا ينكشف مجالا واسعا لجمال اللثة الوردية لديها، يرن جرس الهاتف ليكسر الصمت المسيطر على الثلاثين مترا مربعا لصالون الحلاقة الوحيد بالحي وتلتقط الوسيا الهاتف: «الوو، صالون الجمال معك»، تتحدث الكوافيرة وهي واقفة على أرجل قوية ثابتة، على الرغم أنها هذا العام تُتم الخمسين، إلا أنها تبدو شابة في ريعانها، ترتدي تيشرت بحمالات رفيعه، بنطلون من الليجن داكن اللون، يكشف بالكاد عن بشرة نضرة اللون وبعض عروق الأوردة العنكبوتية بالكاحل، «غسيل أم تصفيف أم صبغة أم نتف؟»، بينما تحمل الويسا سماعة الهاتف بين فكها وكتفها، تقوم بتقليب صبغة الشعر التي أفرغت محتوياتها من الأنبوب مع محلول الأوكسجين وخمسين جراما من بودرة التفتيح، تتحدث إلى الهاتف وتحفظ فى صمت: «صبغة وتصفيف، حسنا، أي وقت يناسبك؟ الثانية ظهرا؟»، تنظر إلى ساعة الحائط، لديها جدول أعمال مزدحم (في السابق عندما كانت الظروف سانحةً عينت مساعدة لها، لكن بعد ان أنفق زوجها جزء كبير من المدخرات لفتح البار الذي أفلس في غضون تسعة أشهر، فأصبحت الوسيا بالكاد تدفع راتب مسؤولة أعمال تجميل السيدات وإيجار المكان)، تقترح على السيدة التي على الهاتف: «هل من الممكن أن نؤجّلها لحدود الثانية والربع؟».
تترك الويسا صحن التقليب وتلتقط قلما وتفتح أجندة المواعيد وتدون بقوة وكأنها تنقش الموعد على الورق وليست لتسجله فحسب.
– حسنا الثانية والربع موعد ممتاز، سأنتظرك. تغلق الهاتف مع العميلة، يرتسم على وجهها ابتسامة تكشف عن أسنانها البيضاء المنمقة وكأن العميلة التي على الهاتف تستطيع رؤيتها وهي تبتسم.
لن تأكل الويسا اليوم أيضا، فمنذ أن تركت عملها كمصففة شعر و خبيرة تجميل حرة (تحت الطلب) وافتتحت الصالون الخاص بها، أصبحت بالكاد تلتقط أنفاسها، لدرجة أنه ليس لديها الوقت لتدخن، حتى أنه عندما يصبح لديها الوقت فإنها تستغله فى الراحة، حيث تمدد جسدها لتستريح على كرسي نصفه في الداخل والآخر على باب المحل، رغم ذلك لا تتنازل أبدا عن فكرة أن يكون لها صالون خاص؛ فهى تريد إعالة الأسرة دون البقاء متيقظة لوقت طويل، لتجميل فنانات حفلات رأس السنة، أو أن تعمل دون راحة في عطلات نهاية الأسبوع لتجميل العرائس اللواتي ينفصلن سريعا في الغالب، في غضون العام، أو أن تستيقظ فجرا لتصفيف شعر مذيعي الأخبار؛ فهي تريد أن تكون مالكةً لوقتها حتى لو لم يكن لديها هذا الوقت.
كانت الكوافيرة مازالت تدون ميعاد العميلة عندما وصلت (لولا) خبيرة التجميل ذات الستين عاما، عملت في أفضل صالونات التجميل في مدريد، قامت بطلاء الأظافر لوزيرات، صحفيات، كاتبات، قاضيات، وعندما أرادت التقاعد عن هذه الحياة التي تخنق أصابعها، و تشوّه عانتها من وضعية الجلوس الطويل في العمل، أنشأت وعملت مع زوجها في مشروع بيت للطعام، لكن ترمّْلها المفاجىء وديون البنك أجبراها على تغيير جميع خططها، الآن تعيش مع ابنتها الصغرى في شقة بإحدى الضواحي على بعد تسعين دقيقة واثنتي عشرة محطة مترو بين صعود ونزول وتبديل بين عربات القطار لتصل في النهاية إلى صالون الجمال.
بيدها شنطة تمتلئ بمستحضرات التجميل، تحكي لولا بمجرد دخولها: لم أجد علبة دواء واحدة الأنفلونزا، يبدو أن الجميع أصبح مريضا مؤخرا! وضعت الويسا يدها على جبينها لتجس حرارتها، وتستكمل لولا: سوف يرسل لي الصيدلي رسالة عند وصول الطلب خلال ساعة على الأكثر.
بعد توزيع القبلات ووضع الكريمات على الرف الرخامي المتسع، تقترب لولا من عميلة تنتظرها، ورأسها ملفوف بورق الفضة تُطالع إحدى المجلات على مضض وهى تقول لها: ما الذي سنصنعه اليوم، هل سنقوم بتجميل الأظافر على الهيئة الفرنساوي ( فرنش مانيكير هي طريقة تزيين الأظافر بوضع طلاء أبيض على طرف الظفر ) أم مجرد مانيكير (الطلاء العادى) و تلميع للأظافر؟
عضت المرأة على أسنانها وهي تخبر لولا أنه لم ينل إعجابها طلاء الأظافر في المرة الأخيرة؛ لذا أحضرت الطلاء الخاص بها.
تسحب خبيرة التجميل كرسيًا جالسةً أمام العميلة بظهر منحني، في أثناء إزالة الويسا ورق الفضة على عجل، تمسح لولا الأظافر بالأسيتون لتزيل الطلاء الأحمر، إذ تأمرها العميلة: أزيلي الطلاء جيدا ولا تستعملي هذا المبرد، استعملي الآخر ذاك، هو أفضل في الصقل، فتبتسم لولا بدورها وتمسك باليد اليمنى للسيدة وتضعها بوعاء الماء الدافئ.
– تنادي الويسا وهي ممسكة بالهاتف بين فكها وكتفها، يداها مشغولتان: لولا، تسأل مونيكا عن إمكانية أن تحفّيها اليوم عند الساعة السادسة، هل لديك وقت؟
– بهدوء ترفع لولا نظرها وتومىء بالإيجاب، ثم تعود لما كانت تفعله بنفس الهدوء في حين لا يكف الجرس المعلّق بمقبض الباب عن إصدار رنينه معلنا كل مرة عن وصول وافد جديد.
هناك فتى الكشك الذي كان يقرأ بنبرة مرتفعة تشكيل دوري كرة القدم، نادل البار على الجانب الآخر الذى يترك المفتاح ليذهب لشراء الخبز لتحضير بعض المقبّلات، حارس الثماني أدوار الذي يظهر محملا بطرد باسم فلان الفلاني، الذي توافق الوسيا أن تحتفظ به حتى يأتي ليحمله.
أساور الواسيا تتصادم مع بعضها البعض في كل مرة تلوّح فيها لأحدهم بذراعيها، يزداد وضوح لون الصبغة وهي تغسل باهتمام شعر هيرمينيا، التي تتشبّث مشدودة بمساند الذراعين، ما دفع الويسا لتعتقد أنها تتألم بسبب برودة الماء، فتحاول أن تدفِئه أكثر، لكن المرأة العجوز لا تزل ترتجف، فتقوم بإنهاء تنظيف شعرها بأسرع ما يمكن، تلُفّ منشفة حول رأس هيرمينيا وتصطحبها بكلتا يديها إلى الكرسي، ثم تقوم بلفّ شعرها ببكرات الشعر واحدة تلو الأخرى، مقدمة إليها مجلة، من ثم تغطي رأس هيرمينيا بالغطاء البلاستيكي.
يعاود التليفون للرنين مرة أخرى، تلك المرة كان تليفونها المحمول، تجفف يدها بفوطة وترد: «هل وجدتي دواء البرد؟ قلت أنه في الدرج الأيمن، لا، هناك في الأعلى، بجانب درج أعواد قطن الأذن.»، تعطي الوسيا تعليماتها وهي تلف فوطة حول أكتاف المحامية وتُعدّل من وضعية رأسها على كرسي غسيل الرأس، «تركته في المرة الأخيرة هناك، يا إلهي هل عليّ أن آتي لأبحث عنه بنفسي، اعطني أبيكِ.»، تخفّض صوتها وتقترب من الشباك متحدثة بهمس، بعد غلق الهاتف تفرغ أنبوب الشامبو على رأس المحامية التي عادت للكرسي مرة أخرى. في غضون خمسة عشرة دقيقة، يجب عليها أن تسجل عقد شقة، ويبدو أنها لن تستطيع الوصول لهذة الخطوة.
– هل تسير الأمور في المنزل على ما ينبغي؟
تتساءل المحامية كي تدارى القلق بينما الويسا تزيل الصابون الذي يغطي الشعر القليل المتناثر: «اه، لا شيء! مارينا صغيرتي مصابة بالإمساك. أنتِ تعلمين أنه في هذا الوقت تقريبا يصاب الجميع بالعدوى.»، هل المياه جيدة أم تريدها أكثر سخونة؟
في آخر غسل للشعر بالماء كانت الوسيا تحاول أن تخفي قدر المستطاع خصلات الشعر التي سقطت في يدها.
– أيمكن أن نضع قليلا من “أمبولات” تكثيف الشعر ومنع التساقط؟
– أتعتقدي أنني في حاجة إليها؟
– ترد بكذب: هي فقط مجرد نوع من العناية.
غسيل، تمشيط، صبغ، حفّ، أو عمل فورمة للشعر، يأتي الجميع كل لشيء مختلف، لكنهن جميعًا تردن الشيء نفسه، آملين فى الحصول على نسخ محسنة من أنفسهن أو على الأقل مشابهة لما كنّ عليه سابقًا، في هذه الأمتار المربعة الثلاثين، يبحثن عما لم يعد لديهن، وعلى الرغم من أن الشامبو لا يحقق المعجزات، على الأقل، فإنه يجعلهن يسترددن أنفسهن.
وبينما تفك بكرات الشعر الثلاثين المعدنية لشعر هيرمينيا تدخل امرأة بزي رياضي فهي مدربة الزومبا في صالة “الجيم” المقابل.
– تتساءل الويسا : ماذا بك ريبى؟
تنظر المحامية في اندهاش للوافدة، شابة ممشوقة القوام، طويلة كحائط، تصل هامتها حدود الباب، ويصل شعرها حتى الخصر، لا تتوقف عن البكاء متحدثة بلهجة دومنيكانية: لديّ عقدة في شعري، أرجو التخلص منها يا الويسا، وبديلا عن أن تهدأ، تزداد فى البكاء، فتمسك الكوافيرة ذراع الفتاة وتجلسها على كرسي كبير، تقدم لها كوباً من الماء في محاولة لتهدئتها، حينئذ يرن الهاتف مرة أخرى.
– ألو، صالون الجمال معكِ.
تشير الويسا بإصبعيها الإبهام والسبابة على أنها ستعود خلال دقيقة إلى السيدات الثلاث، العجوز والمحامية وفتاة الزومبا.
– هتعملي صبغة وكيرلي النهاردة؟ متحدثه عبر الهاتف، وفي الأثناء تنظم الويسا كومة من أوراقها وتستطرد: هناك مكان شاغر الساعة الرابعة عصرا هل يناسبك؟
– عظيم أراك ِ على خير في الموعد يا جميلة.
في لحظتها، قفز بصورته حلُمها لليلة الماضية، كأنها تحلق لفرسات بالماكينة الكهربائية منتزعة مئات الشعيرات للمهر ذي الشعر الأحمر، بعد أن تركتهم كأنهم خراف شرعت الكوافيرة في الركض حافية القدمين، على الرغم من أن الشتاء كان يسيطر على الحلم إلا أنها كانت تهرب بملابس ممزقة، ثم تعود في الحلم ذاته وكأنها تحلق لنفسها مستخدمة شفرة ثلمة، مرُهِقة.
محاطة بالملاقط، بكرات الشعر، الأمشاط، الأرواب التي ترتديها العميلات، المبارد، عبوات الكريمات، صور مختلفة تأتيها من داخل الحلم في اللحظة نفسها، تمر بذهنها كأنها ركلة من الألم. وحين توشك على التمشيط وعمل الكيرلي للمحامية، عاود هاتفها المحمول في الاهتزاز مرة أخرى، التقطته فلم يكن لديها اختيار آخر؛ فبدونها يتدمر هذا المنزل، تتجه نحو النافذة مرة أخرى: “نعم يا مارينا، لا لن أستطع الصعود الآن، اعطني بابا، ليس هذا الدرج، قلت لكم أنه الذي في الأعل”.
تبكي مدربة الزومبا منتحبة، بينما المحامية لا تتوانى عن النظر في ساعتها، أما السيدة العجوز (هرمينيا) التي تسكن بالدور السادس، تغرز أصابعها الصفراء المقشرة ممسكة بزراع الجليسة، يبدو الجميع في حالة عدم رضا فيما عدا خبيرة التجميل التي تدهن أيدي العميلة بالكريم، التي تلفّ بعض من خصلات شعرها المصبوغ بورق الفضة موجهة حديثها لالويسا: ألن تتابعي اللون؟ لا أريده أن يزداد كثافة زيادة عن اللازم.
يوجد جبل من المجلات على شكل قلب على الطاولة الصغيرة وورق يتلهى به من تدخل عتبة المحل مكسورة القلب، الصالون ذلك المكان الذي تأتي إليه كل من تريد التخلص من معاناتها.
بينما الويسا تتفحص لون صبغة الخصلات كانت المحامية تراجع شعرها الطويل أيضا، تقول لنفسها راسمة ابتسامة صفراء مكسورة أمام المرآة: ربما أحتاج إلى باروكة فيما بعد.
لاحقا دفعت العميلة المحامية العشرين يورو وأرسلت قبلتين في الهواء للكوافيرة وخرجت مسرعة، لكن مع الدوران عند ناصية الشارع أفلتت دمعة دافئة برّدتها الرياح، فضّلت ألا تمسحها حتى لا يفسد مكياجها، وبوصولها إلى مكتب العدل لم يعد يظهر على وجهها أي ملامح للدموع لكن تظل الغصة بداخلها عميقا كأنها خيط لجرح على فوهة بركان لصدر ضائع.
تحتفظ الويسا باليوروهات في محفظة صغيرة، عائدة إلى مدربة الزومبا الشابة (ريبى) التي لا تتوقف عن محاولة لفّ شعرها بإصبعها.
– ماذا صنعت بشعرك يا ريبى؟
– لا أدري، كلما حاولت فك تشابكه، كلما تشابك أكثر ولا أريد قصه ارجوكى.
فضلا عن أنها لم تتوقف عن النحيب، تبدأ فى موجة جديدة من البكاء، بينما تبعد الويسا يد الفتاة عن شعرها وتبدأ بتجميعه على شكل نصف ذيل حصان، تدهن الجزء المربوط بكريم لفك التشابك.
ـ خلال عشرين دقيقة سننتهي، اهدئي، لا حاجة لنا لقصه، تكذب الويسا مرة أخرى.
تعلن ساعة الحائط عن الثانية وخمس دقائق، يتبقى عشر دقائق فقط وبعدها ربما تستطيع الصعود للمنزل دون أن تخلع المريلة أو حتى تستبدل التيشرت وتسرع الويسا نحو الباب، لكنها تباغتها العميلة صاحبة ميعاد الثانية والربع.
– تقول وكانت قد نسيتها محاولة أن تُخفي ما بداخلها: مواعيدك مضبوطة، انتظري سآخذ معطفك.
لا تزال لم تعلق معطفها الخاص بالمطر على الشماعة حيث تشعر بلفحة حرارة شديدة على وجهها، لا يهدأ شعورها بالحرارة بينما تشعر بانزلاق حبات العرق على ظهرها على الرغم من أنها كانت تتمنى أن تتخلص منها بالفوطة، لكن قلقها على شغلها منعها، كانت تفكر فى ذلك بينما لا تزال الشماعة بيدها وهي تقول: ها أنا هنا، التقطت بسرعة زجاجة مياة وقدمت للذبونة كوب آخر من الماء.
أما لولا التي انتهت توًّا من مانيكير العميلة، همّت ترحب بالزبونة الجديدة.
– كنتِ تفكرين بشأن الحلاقة على ما أظن.
– لا لكن كما تقترحي، دعيني استغلّ الفرصة وأضرب عصفورين بحجر واحد.
– لدي ميعاد شاغر الآن، سنعمل فى الحال.
غمزت لولا بعينها لالويسا التي بدا عليها شعور بتحسن من الدوران، الحرارة الشديدة، الاختناق، تحول العرق لبعض حبات لؤلؤية على جبينها تمسحها بظهر يدها، إذا لم تصعد لمنزلها الآن فلن يكون لديها الوقت لاحقا، لكنها أثناء المحاولة الثانية للخروج تقابلت مع هيرمينيا التي تنتظر الدفع ممسكة بيدها حافظة نقودها الصغيرة.
– إنها اثنتا عشرة ونصف.
بقيت العجوز واقفة أمام الكاشير بدون أن تنطق بكلمة، حيث كررت الويسا بصوت أعلى: هيرمينيا يا حبيبتي إنهم اثني عشرة ونصف، وكررت الجليسة المبلغ بصوت أعلى، حينئذ أخرجت هيرمينيا ورقة فئة عشرة يورو وبدأت في البحث عن الاثني ونصف يورو لدفع المبلغ المحدد، بينما تبتسم لها الويسا تتساءل بداخلها: إلى متى سيطول ذلك يا الله، بهذه الطريقة لن أتمكن من الذهاب إلى المنزل فدواء البرد موجود في الرف العلوي وليس من الضروري الآن شراء آخر، “يجب أن أذهب وأبحث عنه” تتحدث إلى نفسها وهي تساعد هيرمينيا على ارتداء معطفها.
في اللحظة التي غادرت فيها السيدة العجوز همّت الويسا بالخروج سريعا، عبرت الشارع، دخلت البناية التي تسكن بها، تجاهلت الحارس الذي يقف متحدثاً إليها حول الزيادة الجديدة مقابل إزالة القمامة، دخلت المصعد، عندما وصلت حرّكت المفتاح، فتحت الباب بينما كانت ابنتها الصغرى (واحدة من ثلاث) ممددة على “كنبة” تشاهد التلفزيون.
– حرارتك ارتفعت؟ أكلتِ؟ اذهبي إلى المطبخ وتناولي قطعة دجاج أو قليل من الحليب وبعد ذلك تتناولى الدواء.
تسير الويسا في الردهة مُصدرة التعليمات بصوت عال، تدخل الحمام، تنزل غطاء المرحاض وتتسلق لتعيد البحث في الرفّ الأعلى حيث تركت الدواء آخر مرة استخدمته.
– كنت أعرف أنه لو لم أصعد وأبحث عنه فلن يبحث عنه غيري، زوجها وابنتها يقفان على عتبة الباب، ينظرون إليها وكأنها مجنونة.
– هل حدث شيء حبيبتي؟ ماذا تفعلين بالأعلى؟
– كان من صعب أن تبحثوا في الرفّ الأعلى؟ هل كان من الصعب؟ تسأل وهي تمسك بعلبة مضاد البرد.
– من المفترض أن أترك زبوناتي ينتظرن، لأنكم لا تستطيعون البحث عن علبة الباراستيمول في بيتكم.
– ماما، اهدئي، لقد أثرتي عصبيتي.
– تتأفف الويسا بضجر ملحوظ: مارينا، أرجوكِ كلي وتناولي هذا الدواء، تتحدث وهي ما زالت تقف أعلى المرحاض وتنظر لزوجها.
– تأكد أن ابنتك أكلت، اذب هذا القرص في كوب الماء المغلي.
في حين أنها تعيد صندوق الأدوية مرة أخرى لمكانه، إذ تشعر الويسا وهي تقف أعلى هذه المنصة بأنها مثيرة للسخرية، تتساءل داخلها( إذا كانت ستصاب بالجنون، أإذا كانت هي التي تبالغ؟) عند نزولها من فوق المرحاض، تمد علبة مضاد الأنفلونزا إلى ابنتها وتسرع في الخروج من الحمام.
– أمك متوترة للغاية، ألا تعتقدين ذلك؟
– نعم، يالها من مجنونة!
الكوافيرة التي كانت قد وصلت بالفعل إلى منتصف الردهة عندما سمعتهم، تلتفت وتفكر بتلقينهم درسا قويا، تشد شعر ابنتها أولا، ثم تشُدّ شعرهم جميعا إذا كان لديها الوقت إلا أن الساعة تشير إلى الثانية والثلث وبانتظارها ثلاثة زبائن سيقومون بالصبغ وتصفيف شعورهنّ، لكن الويسا لا تفعل أي مما يخطر ببالها، لا تفعل أي شىء إطلاقا.
تغادر البوابة، تعبر الشارع، تشعر بالاختناق كما أن الأرض تتحرك تحت قدميها، إنها تشعر بالركض الغاضب لكل واحد من الأفراس التي صففت شعورها في حلمها.
الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، في صالون التجميل، ينتظرن جميعًا، حتى أن عميلة الساعة الرابعة قد وصلت قبل موعدها للحفاظ على دورها، لا مشكلة يا جميلة، تفضلي بالجلوس “تتحدث الويسا إلى إحداهن”، أنا معك الآن.
تبتسم الكوافيرة , تمسك بمعطف هذه وتلك، تعلق على الشماعة، تقترب من مدربة الزومبا التي ما زالت تئن وتبكي وهي ممسكة بعقدة شعرها.
– هيا بنا ريبى، هيا لنفك هذه العقدة.
لن تأكل الويسا اليوم أيضا.
………………………..
* من مشروع “مختارات معاصرة من القص النسائي الإسباني”
*كارينا ساينز بورغو، صحفية وكاتبة ولدت في عاصمة فنزويلا كاراكاس عام 1982 ثم انتقلت إلى اسبانيا لتستقر بها منذ عام 2006، بدأت مسيرتها كصحفية بجريدة El Nacional بفنزويلا، ثم عملت لدى العديد من الأوساط الصحفية والاعلامية مثل مجلة Zenda الادبية الإلكترونية وصحيفة Vozpópuli الإلكترونية وبالإضافة إلى إذاعة Onda Cero الإسبانية، أصدرت العديد من الكتب الصحفية لمجموعة من التفارير مثل كاراكاس هيب هوب (Caracas hip-hop) عام 2008، والبلد وثقافتها (El país y sus intelectuales) عام 2008 عن فنزويلا .
ـصدرت روايتها الابنة الإسبانية (La hija de la española) عام 2009 والتى يعتبرها الكثيرين انها ظاهرة ادبية وقطعة مميزة من الادب الاسبانى والتى تتنأول حالة التردي والفقر التي يعيشها المجتمع الفنزويلي من بعد رفاهية نفطية، بسبب انعدام الديمقراطية، وتفشي العنف في بلادها إبان حكم هوغو تشافير، كما تم اختيارها من قبل جريدة التايم ضمن قائمة أفضل 100 كتاب لعام 2019 وطُبعت في 22 عاصمة في أوروبا وأميركا الشمالية واللاتينية، بما فيها فنزويلا بلد المؤلفة الأم، وترجمت إلى 18 لغة وصدرت نسختها العربية حديثًا في لبنان عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، بترجمة جلال العطاس.