شَجَن العتمة

محمد ممدوح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد ممدوح

يترك الحمّام مضاءً طوال الليل، ويغلقه عند نزوله إلي العمل في الصباح فيظل مظلماً باستثناء بقعة ضوء تتسلّل من نافذته الوحيدة، التي ينظر خلالها إلي قاع المنور فيصاب بالهلعِ من عشراتِ نوافذ الجيران المُعتمة، ويتخيّل أن شخصاً يدفعه إلي ذلك القاع، فيخرج عارياً من الحمّام ليجد باب الشقة مفتوحاً، فيشك أن الشخص تسلّل إلي الداخل واختبأ بإحدى الغُرَف. وعندما لا يجده فإنه ينتزع أحبال الغسيل من الشرفة ويُعلّقها في الصالة؛ حتي لا يظهر الشخص فجأةً ويدفعه إلي الشارع أثناء نشره الغسيل.

 هكذا كان يعتقد.

ارتاحَ إلي ظلام الحمّام بعد تلف لمبته الكبيرة، التي لم يستبدلها بأخري كسلاً، فكان يشعر بحركةِ أقدامٍ لأجسادٍ بحجم الإصبع، نبَتتْ فوق قطع الطين المتساقط من حذاءه فوق أرضيّة الحمّام المُبتلّة بالماء، وبجوارها أشجار ملوّنة، للأجساد رائحة مطر، قيئ، وملابس مغسولة، تسير بحذرٍ فوق إطار النافذة، ثم تهبط ليستقل كل جسدٍ بقطعة طين تحمل رائحته المُميّزة. 

تتآكل قِطَع الطين وتتباعد عن بعضها ببطء؛ ولكي يصنعوا منها كتلة كبيرة يُمرّر إليهم الهواء، العابر من نافذة الحمّام، بَكَرة خيطٍ يستلّوا منها مجموعة خيوطٍ يربطوا بها القِطَع الهشّة إلي بعضها، ويجرّونها إلي أحد الأركان المُظلمة.

كان يدهسُ بعض الأجساد دون قصد أثناء قضاء حاجته ليلتقطها الهواء إلي الخارج، لكن عندما تتساقط قِطَع طينٍ من حذاءه تنبتُ منها أجسادٌ جديدة تواصل العمل.

وضعوا الطين خلف “قاعدة الحمّام”، بأرضيتها انحرافٌ خفيف انزلقتْ فوقه قطعةٌ دهستْ في طريقها جسدين صغيرين وكسرتْ أرْجُلَ ثالثٍ، فيشد الآخرون قطعة طينٍ ويربطونها بالحامل المعدنيّ، ثم يهبطون لدفعها لأعلي؛ كي يصنعوا كتلة كبيرة، لكنهم يصطدمون علي سطحها بخطوط بارزة ومتقاطعة لأثر الحذاء، فيُسرّب إليهم الهواء أعواداً خشبية لإزالة تلك الخطوط.

يستيقظ عند منتصف الليل علي غناء امرأةٍ رقيق ينطلق من إحدي النوافذ المعتمة المُطلّة علي المنور، اقترب مستمعاً للصوت حتي انقطع تماماً، كان واقفاً بالقرب من نافذة الحمّام الذي امتلأ بالهواء فجأة، فكاد أن يرفعه إلي السقف ليُسارع بإغلاق الباب خائفاً.

 فكّر في استبدال اللمبة وتنظيف الحمّام من الغد.    

 يغسل ملابسه في المطبخ بعد العودة من العمل، إلاّ أنها كانت تنزلق من فوق أحبال الغسيل المُعلّقة في الصالة بمجرّد نشرها دون مشابك، موضوعة بكيس في زاوية الشرفة، إلاّ أنه تردّدَ في الذهاب إليها مخافة أن يدفعه الشخص من الخلف إلى الشارع عند أقدام المارة.

 حاول التقاط الكيس بمقشة صغيرة، فسقطتْ من بين القوائم الحديدية فوق رؤوس الجالسين بالمقهى فاختبأ مذعوراً بالداخل، وجسده المُبتل يرتجف من هواء الشرفة.

نشر ملابسه فوق مقاعد الأنتريه القليلة.

بدّل ملابسه المُبتلّة وأعدّ كوب شاي شربه في الحُجرة ثم نام. رآهم في حلمه يصعدون إليه من المقهى ليقذفوه من الشرفة، فاستيقظ فزِعاً لكنه لم يقوَ على النهوض بجسدٍ ثقيل حرارته مرتفعة. تقيّأ وتبوّل في سريره فانقطع أسبوعاً عن العمل.

كان يمارس عادته السرّية على تأوّهات امرأةٍ شبقية تصله من نافذة الحمّام المفتوحة علي النوافذ المُعتمة بالمنور.                   

 

  تموت أجسادٌ كثيرة أثناء إزالة الأثر من فوق قِطَع الطين.

من نجا منهم بني بيوتاً صغيرة بأعواد الخشب، لكنها تحطّمتْ بتعاركهم لاختلاف روائحهم، فانتقلوا للإقامة فوق رف مرآةٍ، مُثَبّت أعلي حوض أبيض اللون، بجوار ماكينة حلاقة، أكياس “جِل”، قطعتي صابون، مقص، وفرشاة شعر كبيرة، أحياناً يقفزون من الرف لبقايا ماء في البانيو. يلتهمون من الجوع قِطع الصابون، ويدهنون أجسادهم بطبقة “جِل” قبل النوم؛ حتي لا تجرّح عند وقوعها من حافة الرف والارتطام بالحوض.

كان الهواء ناعماً في الحمّام وبلا أثر.

 قفز اثنان، من رف المرآة، علي رقبته وانزلقا علي مؤخرة عنقه فخرج صارخاً من الحمّام. تجرّد من ملابسه للبحث عنهما. وعندما لم يجد شيئاً أُغشي عليه في الصالة.

في اليوم التالي غطّى حذاءه بكيس بلاستيكيّ؛ حتى لا يلتقط طيناً من الشوارع. اندهش زملاؤه في العمل عندما رأوه، قال بأن الكيس يساعد على التركيز وزيادة الإنتاج كما أثبت عالم نفس أجنبيّ لفّقَ اسمه، فصدر قرار بتغطية جميع الموظفين لأحذيتهم.

عاد إلي البيت منتشياً، فحذاؤه لم يلتقط قطعة طين واحدة.

ترك المُنظّفات في طرقة مؤدية إلي حجرة نومه بجوار لمبة فلورسينت. فوضع الهواء، المتسلّل من نافذة الحمّام، آلة ماندولين فوق رف المرآة. وعندما استيقظ علي تأوّهات المرأة التصق بنافذة الحمّام ومارسَ عادته السرية. 

انقطعتْ التأوّهات.

أفرغ المُنظّفات في دلوٍ أزرق، فتح باب الحمّام وأسند الكرسيّ إلي الحائطِ عن يمينه لاستبدال اللمبة، فانطلقتْ موسيقي ماندولين أرعشتْ جسده بشجن العالم. بكي تأثُّراً فانزلقتْ اللمبة من غلافها الورقيّ وتناثرتْ فوق أرضية الحمّام شظايا جرّحتْ باطن قدميه.

اقترب من رف المرآة، وقفوا عليه متجاورين ينفخون في آلتهم وأعينهم تشع بضوءٍ فسفوريّ، تفوح أجسادهم الصغيرة برائحة مطر، وملابس مغسولة، وجثث أقرانهم مُغطّاة ب”الجِل”.

التقط الأجساد الميّتة وغسلها بالمُنظّفات من رائحتها القديمة، وضعها في حقيبته الصغيرة مع قِطَع الطين، واحتفظ بالأشجار الملوّنة.

دفن الأجساد بجوار شجرة بالقرب من البيت، ونثر قِطَع الطين في النيل.

ذهب إلي العمل وحذاؤه بلا أكياس. برّر ذلك لزملاءه بأنه نقل خطأً عن عالِم النفس.

التقط حذاءه قِطَع طينٍ تركها تجف في حجرته. طهّرها بحرقة نظيفة ووضعها ككتلة واحدة في أحد أركان الحمّام وغرس فيها الأشجار المُلوّنة.

استيقظ عارياً على تأوّهات المرأة.

جذبته موسيقي ماندولين إلى الحمّام المُظلم، ليقف بجوار النافذة مُنتشياً فيتناثر ماؤه فوق كتلة الطين الموضوعة في أحد الأركان، فتنبت أجساد بحجم الإصبع يشاركها رأسها المحموم، وتضاء نوافذ الجيران المُطلّة على المنور في وقت واحد، لكنه واصل الرقص عارياً.

في تلك اللحظة خرج جيرانه من شققهم بهدوء وتسرّبوا من باب شقته المفتوح لينزعوا أحبال الغسيل من الصالة متجهين بها إلى الحمّام.

  

   

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون