علي بنساعود
شاهد الطفل كلابا تنهش جثة أبيه، كما شاهد أمه تفقد إحدى ساقيها، لكنه لم يشاهد رقية لحظة انفجار أفقدها يدها اليسرى وخالتها… جميعهم يرقدون، الآن، في مستشفى، تسللوا إليه عبر الأسلاك، بعد رحلة مأساوية استغرقت أياما…
نزل النازحون من الحافلة، تحلقنا حولهم… حدثنا طفل عن اقتحامات نفذها مسلحون في قريته، عن معارك خاضها، رفقة أبناء حيه، ضدهم:
_ توالت علينا المآسي، انعدمت كل سبل الحياة، عشنا الضنك وقاسينا مرارة الجوع، أكلنا، نحن الأطفال، التراب، وتناول الكبار القطط والكلاب… أما المرضى فيقضون من دون علاج أو دواء… في كل يوم، كنا نقبر أحبة لنا…
سألته عن شقيقه، نكس بصره وقال:
_ أخي؟ لا أذكر أنه كان لي أخ، ربما كان لي ونسيته، لم أعد أستطيع تمييزه من باقي أطفال المخيم، الذين بمجرد ما أصبحوا يميزون بين أنواع الأسلحة، بين الرصاصات الفارغة وتلك التي لا تزال تحمل الموت في أحشائها، لوَّنوا وجوههم، موَّهوها، ثم التحقوا بالجبهة…
أثارني أنه يروي الوقائع من دون خوف، ويتوقف عند أدق التفاصيل، سألته فأجاب:
_ نحن، الأطفال، ولدنا شجعانا، نتأقلم مع أي جديد في حياتنا، نتكيف من دون خوف ولا مشاكل…
ربما شعر بمبالغته، فاستدرك:
_ الحقيقة هي أن الخوف يملأ قلبي، وحزني لا يطاق، وكوابيسي مرعبة، لكنني، ربما تعودت على سرد قصتي، وتعلمت كيف أخفي خوفي وأبقيه داخلي…
ينقطع حبل تذكره، يقول بصوت حزين:
_ أنا جااائع…
بطنه منتفخة، عيناه زجاجيتان، خداه أجوفان، ولثته دامية… تشرد عيناه إلى الأفق البعيد، إلى زمان آخر…
بالجوار، يحكي شيخ:
_ كان ابني يلعب مع أخيه الأكبر، انفجرت قذيفة على مقربة منهما، تبخر الصغير مباشرة، وأصيب الكبير، أفقدته الشظايا بصره، أصابت عموده الفقري. هرّبه رفاقه خارج المدينة، عبر قنوات الصرف الصحي، قد يستعيد بصره، لكن، ليس حركته.
سأل أحدنا عجوزا عن زوجها، عجز لسانها عن الكلام، فروت بالدموع مأساته! علمْنا، في ما بعد، أن أغرابا نحروه، أمام عينيها، بقطعة زجاج…
تختلط علينا المشاعر، نتألم، نتفجع، نصرخ، نستنكر… ونواصل البحث بين الأشلاء عما لم يتفحم بعد من هياكل وجماجم وقصص…
وجدتني أمام عجوز! في عقر كوخ تهدم عن آخره، وبقي عالقا تحت بابه، بين الأنقاض… ينفث دخانا! مددت له يدي وأنا أقول:
_ حمدا لله على سلامتك، لقد انتهت الحرب… أتمنى ألا تكون مصابا…
رد:
_ انتهت الحرب بالنسبة إليكم أنتم، لكنها ستبقى معي حتى آخر العمر!
بدوت له مستغربا فواصل:
_ إن كانت المدافع سكتت في المدينة ومحيطها، فإنها لن تسكت أبدا بالنسبة إلي، ما دامت سلبتني أغلى ما أملك…
أزاح قطعة بلاستيك كانت تغطي جثة شاب وذراعا مبتورا… ثم انهمك في إعادة تركيب الذراع… فغرت فمي، فقال: لا تندهش، ستقوم الجثة بعد قليل، وأكيد أنها ستحتاج هذا الذراع…
…………………
*من المجموعة القصصية “دوامة الخيول المرحة” (2020)