شعرة عملاق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 20
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نوره عيسى

اليوم عادي، ممل، روتيني ثابت في كل أيامي. أعترف بأنني شخص كاره للعشوائية، أحب التنظيم، إن أعددت ثلاثة أشياء لفعلها وأُنجِز الثاني قبل الأول لأي سبب كان؛ لابد أن أتوقف لأهدئ من روعي وأتفهم أن ذلك لن يضرني في شيء.

أحببت ذاك التنظيم الذي أصبحت حياتي عليه، أماكن محددة بأشخاص محددة، أفعال واحدة وأحاديث ثابتة، مهما اختلف الشخص، لابد أن هذا الموضوع هو ما يمكنه من إذابة الجليد بيننا، الجليد الذي يتحول لمياه باردة ولكن لا يهم، المهم هو أن ينتهي اليوم.

أمشي في طرقات طويلة كل يوم، أتأمل ربما، وأحاول رمي ما علق معي خلال اليوم مع كل خطوة، أتخلص من عبء ازداد على أكتافي حتى أحسست وكأن شخصًا آخر يسكن فوق أكتافي، يستمتع بالرؤية من أعلى، ويكتم أنفاسي من أسفل. أتخلص منه على باب بيتي -أو أحاول- لأنهي يومًا كسابقه، وأبدأ آخر يشبهه.

أعمل طبيباً في أحد المستشفيات، وربما يُخيل لأي شخص أن عملي أبعد ما يكون عن الروتين، ولكن لا؛ عملي هو المثال الأقرب للروتين. نفس الوقت لأصحو، ونفس الملابس، نفس المكتب، وأيضًا دون إندهاش نفس الأدوية، نفس حالات الوفاة، ونفس الغصة في قلبي عند سماع آهات أحدهم، ولكن دون إظهار أي تعاطف.

في أحد أيام بداية عملي، كنت ما زلت صغيرًا، مفعمًا بكل الطاقة وحب المساعدة والتعاطف، أشفق على هذا الصغير من ألم الحقنة، وألهث في طرقات المشفى لألحق بكبير قبل أن يودعه أقاربه.

ولكن في يوم ما، لا أعلم ما حدث، لا أعلم لمَ حدث ذلك، ولكن أدركت هذا اليوم، أنني ربما أعاني من شيئ ما.

أحب الكتابة، أعلم أنها أبعد ما يكون عن مجالي الآن، هذا الفن الذي يريد منك أن تتجرد من كل ضغوطك لتُلقي بكلمات على الورق، كلمات أصبحت بخط رديء وسيئ وغير قابلة للقراءة، كخط طبيب ملّ من الصياح حوله، ويعلم أنه لن يقرأ أحد كلماته، سوى الصيدلي.

الصيدلي الذي أصبحت أتردد عليه ولكن بلا سبب، ذهبت للمرة الأولى لأشتري مهدئًا، وصفته لنفسي بالطبع، لم أجرؤ على الإفصاح بما كنت أعانيه لأي حد، زميل كان أو صديق.

هجرت الكتابة، أو هجرتني هي، بلا سبب مقنع ولكن لأن الاهتمام هو أساس العلاقات، لم يعد لدي الوقت، ولم يعد لدى الجرأة، أصبحت أعمل حساب لكل كلمة تخرج من عتبة فمي، وأصبحت يدي أثقل من رأسي في حركتها على الورق.

أتمشى في الطرقات، أرى شخصيات أكثر من عدد شعر رأسي الذي بدأ يتساقط مع كل مريض أراه، أتألم ولا أعلم السبب، أكتم ألمي ولا أعلم لأين يذهب.

تناولت مهدئي اليوم بعد انتهاء عملي، وقبل ذهابي لمنزلي، ربما لأنني أردت لهذه الضوضاء الخارجية ألا تؤثر على هدوئي الداخلي، الهدوء المزيف الذي تصنعه حبات الدواء، ولكن لا يهم، مزيف يريحني.

أسندت رأسي على شباك الأتوبيس الذي يوصلني لبيتي، تدحرجت كثيرًا وتحرك جسمي أكثر من أي مرة لي في الصالة الرياضية، توقف الكابتن ليعطينا راحة، وتوقف الأتوبيس للإشارة الطويلة تلك.

عائلة على دراجة نارية، الأب في المقدمة ويحجز أمامه ابنه، والأم في المؤخرة وتحجز أمامها ابن وابنة، تمسك بطفلة صغيرة بيد مرتشعة من فرط ألم عضلاتها، وباليد الأخرى تمسك بابنها الآخر، وطفلة تنظر لي نظرة هائمة، تمامًا كنظرتي إليها.

اليوم الذي دخلت فيه للصيدلي لأول مرة سبقته عدة نوبات هلع، هكذا شخصها أحد زملائي ولكني لم أصدقه، لم أهلع ولم يضطرب نفسي لقلق ما.

في المرة الأولى التي لاحظت فيها تساقط شعري، انتبهت أنه يسقط لسبب ما، شاهدت الشعرة الأولى تسقط مني في آخر امتحان شفهي لي في الجامعة، نزلت على يدي وتحوّل المشهد كله من حولي.

رأيت الأستاذ أمامي أصغر، يلعب في حوش مدرسته ربما، يضربه زملاءه ولا يقوى على ضربهم، أسمعه يلعن نظارته ويستحلف بأنه سيأخذ حقه مهما كان الشخص، عندما يكبر.

الشعرة الثانية رأيتها على إحدى روشتاتي، ونظرت بعدها لأجد مريضي؛ ذا الصحة المعتدلة، أصبح بجناحين، وأخذ ولده الصغير وطار من أمامي، فقط لأنه خاف عليه أن يتركه وحيدًا.

بدأ المهدئ يُعدِل من كل ذلك، يقلله، ويبعده عن تفكيري، أصبحت أسرح كثيرًا في خيالاتي، ولا أجد لها سببًا، سوى أنها حكايات احتاجت لرواياتها أو كتابتها، ولكن يدي لم تطاوعني، تدافعت كل تلك الكلمات لرأسي، لكي أراها حقيقة أمامي.

خمسة أشخاص على دراجة واحدة، وأنا أنظر في عيني الطفلة وكأننا تلاقينا بميعاد ما، أجسام صغيرة أمامي، ونظرة تثقبني.

ألتفت برأسي عنهم وأعود، لأجد نفس الأشخاص الخمسة على الدراجة، بأجسام ضخمة، ووجوه صغيرة، ضخامة تغطي على وجود الدراجة ونظرة الطفلة كما هي، هائمة ولا تعلم متى كبرت، تلف شرائط على شكل فيونكة، تبدو غير متناسقة تمامًا مع كل هذا الطول، وكأن الإنتظار جعلهم يتحولون لعمالقة.

أنظر أمامي، وأجد أبيها وأمها قد تركوا هذه الدراجة الأصغر من حذائهم، يتعدون السيارات ويذهبون للناحية الأخرى من الكباري بخطوة واحدة، الأم ممسكة بطفلة طولها، والأب يحجز على ابنه الذي يتعداه طولًا، أنظر لأجد كل ما حولي تحوّل لنفس المسخ، والناس أطوالهم تعدّت الأتوبيس ووصلت حد السماء. لم أفهم لم طالت الإشارة إلى هذا الحد، ولم ظللت مكاني وبنفس حجمي، تحوٍل الناس حولي لعمالقة، وبقيت أنا وحدي.

وصلت بيتي وأعي تمامًا أن كل ما رأيته هو ربما حلم، هلوسة المهدئ الذي لابد أن أتوقف عنه؛ أو أغيره.. نمت ونويت بداية يوم جديد.

نزلت لأجد طريقي خاليًا، البيوت أشكالها تتغير، وكأنه حدث شيئًا غريبًا داخلها ووصل خارجها، وصلت عملي لأجد ما حلمت به بالأمس.

هؤلاء العمالقة ذو الوجوه الصغيرة، ووحدي بينهم في حجمي العادي، يرونني أو لا.. لا أعلم. كل ما جال بخاطري أنه فيلم أجنبي ما، عندما يتحول الناس كلها لمسوخ ويبقى البطل ليحارب من أجل البقاء.

ولكن أي بطل أنا، أريد أن أصبح مثلهم، لا أريد أي تعب آخر، لم أرتب لذلك اليوم السابق ومعذرةً لن أستطيع إنقاذ العالم اليوم.

توقفت رأسي عن الكلام، ورأيت الممرضة تدخل حجرتي، هي كما هي، في حجمي ولا يبدو عليها أي مظاهر للدهشة، هل لا تراهم؟ أم أن هذا الوجه الثابت البائس هو الوحيد في الكتالوج الخاص بها؟!

“عندنا شغل كتير يا دكتور اتأخرت ليه” وبدأ تدافع العمالقة، أجسام كبيرة برؤوس أطفال، ودهشتي تزداد وكأن ما أراه عادي، أنظر للممرضة لأحاول سؤالها، أتراجع لخوفي من إتهامها لي بالهلوسة، خبر مثل ذلك سيذاع في سماعات الطوارئ إن شمت هي طرفه.

“الناس غريبة شوية النهارده يا مدام سامية، هو فيه حاجة؟”

“مسمعتش يا دكتور ولا إيه، بيقولك الناس صحيت فجأة لقت نفسها كبيرة، وكل واحد بيلاقي جنبه شعرة”

تحسست رأسي بسرعة مع آخر حرف، لأجد هذه الأرض الكاحلة فيها قد ازدادت، أنزلت يدي حتى لا يلتفت أحد لي، لأجد تلك النظرة الهائمة من طفلة ما تعبر أمامي.

ذهبت لأغسل وجهي، وعزمت على رمي باقي المهدأ، تذكرت بأنني لم أتناوله بالأمس ولم أشتري العلبة الجديدة، معنى ذلك أنني لم أتناوله من فترة!

رجعت لأري مدام سامية في شكل آخر، تنظر لي من أعلى وكأنه لو يحدث شيء، أجد شعرة مني بجانبها على المكتب، ورأسي أصبح أقل.

خرجت من المستشفى، أسرعت الخطى، ومع كل نظرة في عين أحدهم أجده يتحول، تحول الناس حولي كلهم لعمالقة، وتحولت أنا لأصلع يفقد شعره كله مع كل نظرة تقع على أحدهم

 

مقالات من نفس القسم