يتوزَّعُ الدِّيوانُ على ثلاثةِ أقسامٍ تحمل العنوان ذاته: ” حيوات مفقودة “، ويأخذُ كلُّ قسمٍ مِنهَا علامَةً تعريفيَّةً تُشيرُ إلى ترتيبِهِ وِفقًا للرَّمزِ اللاتينيِّ ؛ وَبذَا يُصبِحُ الجَمْعُ بينَ التُّراثِ العَربيِّ في التَّصديرِ، وَالآخرِ الغَربيِّ في التَّقسيمِ ، بمثابَةِ المجاوَزَةِ للمَعْنَى المَألوفِ للتُّراثِ ، وَإضَافَة لَهُ. لسْنَا هُنَا أمَامَ أجْزَاءٍ مُنْفَصِلَةٍ ؛ بَلْ نحنُ أمَامَ تنويعاتٍ لحيوَاتٍ مُتعدِّدةٍ ، يتنوَّعُ ” الفقد ” فيهَا مَا بينَ الميثولوجيِّ الدِّينيِّ:(كَرَامَاتِ الأوليَاءِ) في القِسمِ الأوَّلِ، وَانْشِطَارِ الذَّاتِ في القِسمِ الثَّاني، وَمُسَاءَلةِ الآخَر في القِسْمِ الثَّالثِ . يستعيرُ الشَّاعرُ كثيرًا مِنْ آليَّاتِ السَّردِ في نَصِّهِ ، مُضَفِّرًا إيَّاهَا في بنيتِهِ ، غَيْرَ أنَّ حضورَ السَّردِ هُنَا يبدو مُرْتَهَنًا بالشِّعريَّةِ بالأسَاسِ ، وَبدرَجَةِ تحقُّقهَا ؛ وَلذَا فهو يخلقُ لنَا حَكْيًا شِعريًّا رَهيفًا، وَمُتَمَاسِكًا في آنٍ ، بدءًا مِنْ الاسْتِهلالِ النَّصيِّ ، وَحَتَّى المُخْتَتَمِ :
” وَلَمْ يكدْ شريف يخرجُ مِنْ أمِّهِ حَتَّى مَشَى ،
وَتَوَقَّفَ ،
وَصَاحَ :
هَذَا أنَا
وَهَذِهِ وِلادَتِي الأخيرَةُ
فَاسْتَغْفِري أيَّتُهَا الطَّواغِيتُ
وَاصَّدعي يَا جِبَالُ
هذا أنا
سأضع حداً للنازعات
وللفناء .”(3)
ثمَّةَ رُوحٌ تُحاولُ أنْ تُرَمِّمَ تَاريخَهَا المَنْسِيَّ ؛ ذِكريَاتِهَا الَّتي تُحَاولُ أنْ تَعْرفَهَا، حَتَّى إنَّهَا تعتقدُ نفسَهَا دِينَاصُورًا كانَتْهُ مُنذُ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ مليون عَامٍ ، أوْ شَجَرَةً ، أوْ صَوْتًا ، أوْ نُقْطَةَ مَاءٍ ، وَيَتَجَلَّى هَذَا كُلُّهُ عَبْرَ توظِيفٍ دَالٍّ لِفَضَاءِ الصَّفحَةِ الوَرَقيَّةِ ، وَلَعِبٍ فنِّيٍّ على مُسْتَوَيَاتِ التَّشكِيلِ البَصَريِّ ، وَالأصْوَاتِ المُتَعَدِّدةِ المُتَجَاورَةِ زَمَنيًّا ، وَالمُنْبِئَةِ عَنْ تَدَاخُلٍ وَاعٍ بينَ مِسَاحَاتِ الغِيَابِ، وَالحُضُورِ ؛ لذَا، فَمِنْ المُمْكِنِ أنْ تَجِدَ في الصَّفحَةِ الوَاحِدَةِ ثَلاثَ بِنْيَاتٍ شِعريَّةٍ كلّ مِنْهَا قائِمَةٌ ، وَمُسْتَقِلَّةٌ بذَاتِهَا ؛ حَيْثُ نَرَى مَثَلاً بِنْيَةً تَتَمَحْورُ حَوْلَ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ : ” أنَا حَاليًا شَريفٌ أيُّهَا البَحْرُ “
وَالَّتي يُوَازيْهَا ، على فَضَاءِ الصَّفحَةِ :
” على رَبْوَةٍ مَهْجُورَةٍ
سَأبْتَنِي لِي قَبْرًا
قبرًا على قدِّ قُرْفُصَائِي ،
وَأثقُبُ في صَدْري كُوَّةً
لأُطلَّ مِنْهَا
وَتَتَسَرَّبُ رُوحِي إلى المَدَاخِلِ .”(4)
أمَّا البِنيَةُ الثَّانيَةُ فَهِيَ بنيَةٌ حِكْمِيَّةٌ الطَّابعِ ، وَمِنْ دَلائِلِهَا :
” لِكُلِّ صَبْوَةٍ وَاشْتِهَاءْ
طَلْقَةٌ في مَنَازلِ الأحْشَاءْ ”
وَيُوَازيهَا في فَضَاءِ الصَّفحَةِ المُقَابلَةِ :
” أنتِ عَاصِفَةٌ تُجَمِّرُنِي هُنَا
وَأنَا انْفِجَارُكِ تَحْتَ جِسْمِي في المَدَى .”(5)
أمَّا البنيَةُ الثَّالثَةُ فهِيَ ذَاتَ نَزْعَةٍ مَلْحَميَّةٍ ، مِثْلَمَا نَرَى في المَقْطَعِ التَّالِي :
” وَأعْجَبُ الأحْوَالِ حَالِي ؛ فَرَغْمَ أنَّنِي لمْ أذُقْ طَعَامًا مُنذُ لمْ أعُدْ أدْرِي ، تَحُطُّ على رَأسْي الطُّيورُ، وَتأكلُ مَا تَشْتَهِي ، وَأنَا كَحَرْبَةٍ مَزْرُوعَةٍ في كَبِدِ الأرْضِ العَرَاءِ أُرَتِّلُ…”(6)
إنَّ ” حَيَوَات مَفْقُودَة ” نَصٌّ مُنْفَتِحٌ على إمْكَانَاتٍ تأويليَّةٍ عِدَّةٍ ، تَحْضُرُ فيْهِ إحَالاتٌ ، وَتَرْمِيزَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ إلى التُّرَاثِ الإنْسَانيِّ بِشقَّيْهِ ؛ الشَّرقيِّ وَالغَرْبيِّ ، مِنْ جِهَةٍ ، كَمَا أنَّ بِهِ تَرَاكُمًا مَعْرفيًّا ، وَجَمَاليًّا كثِيفًا مِنْ جِهَةٍ ثانيَةٍ :
” الرَّحْمَةَ يَا رَامبو
يَا سَان جُون بيرس
يَا هِنري مِيشو
يَا فرناندو بِيسوَّا
يَا كَافكَا
يَا جُوته
يَاأحْشَائِي.”(7)
يأخذُ القِسمُ الثَّانِي إمَّا تواريخَ ميلاديَّةً ، أوْ اسْمًا لأحَدِ أيَّامِ الأسبوعِ : (الأرْبَعَاء ، الخَمِيس ، الجُمْعة…)، غيرَ أنَّ ثمَّةَ نصًّا مركزيًّا في هَذَا القِسْمِ ، ألاَ وَهُوَ الأرْبَعَاء”، يحْوي إشَارَةً نصِّيَّةً إلى تلكَ الحَيَواتِ المَفْقُودَةِ، الَّتي عَاشَتْهَا الذَّاتُ الشَّاعرَةُ ، أوْ تَمَنَّتهَا منْ قبلُ ؛ فتبدو فيْهِ جَدَليَّةُ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ ، الوجُودِ وَالعَدَم:
” لا شَكَّ أنَّ كثيرينَ مِنْ قَبْلِي، عَاشُوا في هَذَا الجَسَدِ، وَأنَّني بِالتَّأكيدِ، عِشتُ قبلَ هَذَا الجَسَدِ في كَائناتٍ أخْرَى، مِنْ قبلُ ، صَحيحٌ أنَّني لا أسْتَطيعُ أنْ أتذكَّرَ مِنْ حَيَوَاتِي المَفقودَةِ ، على وَجْهِ الدِّقةِ أشْيَاءَ ، وَلكنَّنِي على يقينٍ بأنَّ عديدينَ مِنِّي ذَهَبُوا على التَّوالِي ، وَبقيتُ وَحْدِي، وَأنَّهم يَتَوَافدونَ عليَّ وَلا أرَاهُمْ، وَمَعَ هَذَا فلمْ أزَلْ قادرًاعلى الحَيَاةِ. “(8)
وَفي كلٍّ تحيا الذَّاتُ أزمَةً مُحتدِمَةً ؛ فَتَتَوَهَّم قرينًا مُتَخيَّلاً تارةً ، وَظِلاًّ وَاهِيًا تارَةً أخْرَى، وُصُولاً إلى انْشِطَارِ الوَعْي ، وَيَصِيرُ السُّؤالُ أداةً ناجِعَةً لتلمُّسِ العَالمِ:
” أنَا حَتَّى الآنَ لا أسْتَطيعُ أنْ أجْزِمَ تمامًا إذَا مَا كُنتُ في الأصْلِ، حَيًّا ، وَيَنْتَابُني مَوْتٌ مُؤكَّدٌ، أمْ أنَّنِي في الأصْلِ ، مَيِّتٌ ، وَأصْحُو على فَتَرَاتٍ، قَليْلاً . “(9)
ثمَّةَ حُضورٌ للعَامِ ، وَالتَّماسُ مَعَ السِّياقِ السِّياسِيِّ/ الثَّقافيِّ في القِسْمِ الثَّالثِ مِنْ الدِّيوانِ ، وَيبدو الحَادي عَشَرَ مِنْ أيلول (سِبْتمبِرَ) بمثابَةِ الزَّمنِ المَرْجِعِ في هَذَا القِسْمِ ، وَيَتَّجهُ الشَّاعرُ هُنَا إلى مُسَاءَلَةِ الآخَرِ، وَإقامَةِ تفاعُلٍ نِدِّيٍّ ثقافيٍّ مَعَهُ :
” كُنَّا على هَذينِ المِقْعَدَينِ مَعًا
أنَا وَشَريفٌ
مُحَاصَرينِ بإرْهَابِ مُحَارَبَةِ الإرْهَابِ
شَارِديْنِ كَجَمْرَتينِ
وَلا أعْلَمُ الآنَ أيُّنَا غَادَرَ الآخَرَ بغتَةً
وَلمْ يَعُدْ. “(10)
يبدو شريف رزق مَسْكُونًا بقصيدَةِ النَّثرِ إبْدَاعًا ، وَتنظِيرًا ، وَهُوَ هُنَا يخلقُ مَسَارَهُ الشِّعريَّ الخَاصَّ ، لا بِصِفتِهِ أحَدَ أهَمِّ شُعَرَاءِ جيلِ الثَّمانينيَّاتِ في القَصِيدَةِ المِصْريَّةِ فَحَسْب ، وَلكنْ بِاعْتِبَارِهِ حَامِلاً رُؤيَةً نافذةً للعَالمِ، وَوَعيًا حَادًّا بِهِ ، يُعَدُّ نتاجًا لِخبْرَةٍ مَعْرفيَّةٍ ، وَجَمَاليَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَمُغَايرَةٍ في آنٍ
……………………………….
الهوامش
(1) حيوات مفقودة – شريف رزق – مكتبة الأسرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب – ( طبعة ثانية ) – 2011
(2) حيوات مفقودة – سابق – ص :17
(3) حيوات مفقودة – سابق – ص : 11
(4) حيوات مفقودة – سابق – ص : 16
(5) حيوات مفقودة – سابق – ص : 17
(6) حيوات مفقودة – سابق – ص : 17
(7) حيوات مفقودة – سابق – ص : 21
(8) حيوات مفقودة – سابق – ص : 39
(9) حيوات مفقودة – سابق – ص :
(10) حيوات مفقودة – سابق – ص : 55