محمد العبادي
بدأت السينما في الإسكندرية قبل أن تختطفها مركزية القاهرة.. فإذا نظرنا إلى تاريخ السينما المصرية نجد أن أول العروض السينمائية، وأولى المحاولات لإنتاج الأفلام الوثائقية والروائية كانت من الإسكندرية، كذلك خرج منها عدد من أهم مخرجي السينما العربية، يكفي أن نذكر منهم العالمي يوسف شاهين والمتفرد توفيق صالح، وكان القدر منصفا للمدينة الساحلية الجميلة.. حين صٌنِعت سلسلة من الأفلام تحمل اسمها.
لكن قواعد الصناعة لا ترحم أحدا.. ألقت بالإسكندرية إلى هامش الهامش.. بل نفت وجودهها تماما.. ضحية على مذبح التمويل الحكومي والخاص والدعم المركزي في القاهرة.
في ظل هذا الوضع كان من الواجب الاحتفاء بأي تجربة سكندرية جديدة تحاول الخروج من سجن الصناعة القاهرية.. فما بالك إذا كانت التجربة هي فيلم روائي طويل على مستوى فني متميز: “مستكة وريحان”.
مستكة وريحان هو الفيلم الرابع للمخرجة السكندرية المتميزة دكتورة دينا عبد السلام أستاذ مساعد اللغة الإنجليزية بآداب الإسكندرية، من إخراجها وتأليفها، وهو ما ليس غريبا إذا عرفنا أن المخرجة هي أصلا كاتبة وأديبة ذات أعمال منشورة في مجالات القصة والرواية.
دينا هي مثال للمخرج المؤلف Auteur.. أفلامها دوما من تأليفها.. ولديها القدرة على التعامل مع السيناريو كقطعة فنية مميزة.. لديها الوعي الكافي لتجهيز السيناريو بالصورة المثلى للتنفيذ على الشاشة.. يظهر هذا تحديدا هنا في هذا السيناريو البسيط والرقيق المليء بالحركة والبهجة.. رغم طبيعة شخصياته الرئيسية وفكرته المرتبطة بنهاية العمر…
هي قصة حب بسيطة.. الخفي منها أكثر بكثير من الظاهر.. فهي تتخفي تحت غطاء الجيرة حينا والصداقة أحيانا.. لكن يبقى الحب ظاهرا تحت هذه الأغطية، حب يحمل داخله تناقض المحرم والمسموح في آن واحد.. من ناحية هو حب محرم ومرفوض اجتماعيا بسبب اختلاف الدين بين طرفيه، ومن ناحية أخرى هو حب مسموح ومتغاضى عنه لأنه يجمع بين طرفين في السنوات المتأخرة من الحياة.
لهذا تعمد الفيلم في لقطة ذكية أن يعيد مشاهديه إلى فيلم “غزل البنات”.. ما يربطنا ذهنيا بقصتي حب محرمتين اجتماعيا: الأولى هي قصة حب حمام لليلى رغم فرق السن الكبير بينهما، والثانية هي قصة حب روميو لجولييت رغم القطيعة بين عائلتيهما.
وجاء تنفيذ هذا السيناريو ليظهر تميزه الحقيقي.. ليتحول إلى فيلم ذو صورة ثرية ومتألقة رغم بساطتها المتناغمة مع بساطة عرض السيناريو نفسه.
إن جودة الصورة هي من أهم نقاط قوة الفيلم.. وهي التي ساعدت على اعتباره فيلما روائيا حقيقيا وليس مجرد فيلم تجريبي محدود الجودة – مع احترامي لكل التجارب السينمائية – فرغم ميزانيته المحدودة إلا أن صورة الفيلم جاءت على مستوى عال يقترب من – بل وربما يوازي – مستوى صورة أفلام تجارية ذات ميزانيات أضخم بكثير. الفضل في ذلك لمدير التصوير: أشرف مهدي الذي استطاع أن يغزل هذه الصورة فائقة الجودة عبر إمكانيات محدودة من الإضاءة والتصوير.
سكندرية الفيلم التي بدأت من إنتاجه وإخراجه وموقع تصويره امتدت أيضا لاختيار ممثليه: عزيزة فاضل (مستكة)، علي درويش (ريحان)، ماجد عبد الرازق (البواب)، محمد فؤاد (ابن مستكة)، كلهم سكندريون بالمولد أو الإقامة.. ورغم أن معظمهم ذوي خبرة مسرحية في الأساس إلا أن أداءهم هنا جاء بشكل هادئ ورقيق بما يليق بطبيعة السينما.. خصوصا في هذا السيناريو الخالي من المبالغات.. والذي يعتمد على لمحات بسيطة في إظهار المشاعر المختفية خلف الأحداث.
لكن يبقى السؤال: ماذا بعد؟.. هل هذه التجربة منبئة بإمكانية تطوير صناعة سينما سكندرية حقيقية ومتكاملة خارج سيطرة القاهرة؟.. لا يمكننا الهرب من الإجابة التقليدية: أن الزمن هو الذي سيجيب على هذا السؤال، لكن الحقيقة أن الدلائل الموجودة على أرض الواقع تجعلني غير متفائل بحدوث هذا الحلم.. قد يفتح نجاح “مستكة وريحان” الباب أمام تجارب مشابهة.. لكن يبقى هذا الفيلم له حالة خاصة في ظروفه الإبداعية والإنتاجية والتي من الصعب تكرارها.. ومن الصعب أن نطمع في تطور صناعة سينما سكندرية في الوقت الذي تنهار فيه الصناعة القاهرية نفسها!