سيمون دو بوفوار: رسائل عاشقة إلى نيلسون ألغرين (الرسالة11)

سيمون دي بوفوار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ترجمة: سعيد بوخليط

 الإثنين 02 يونيو1947

حبيبي:

هذه المرة، الرسالة هنا بالتالي هرولتُ نحو غرفتي؛ يخفق قلبي بقوة وأشعر بين أصابعي قطعة ورق تحسستها سابقا أصابعكم. إحساس أشعرني بالسعادة، مهما بلغ مستوى الحزن الذي تطويه صفحات الرسالة: حقيقة لم تتشابك أصابعنا. لقد قرأتُها وأعدت قراءتها غير أن هذا الأمر لم يبعثكم فعليا على أرض الواقع، بل ولا قِطَّتكم.

شكرا بالنسبة لهدية الكتب، لقد قرأتُ ألكسندر كوبرين(1)، تصرف طيب منكم، مع ذلك أفضِّل رسائلكم عن أيِّ كتاب آخر. لاتترددوا بخصوص إخباري عن تفاصيل يومياتكم، فكل مايحدث هناك يعتبر مسألة جوهرية بالنسبة إلي، مثلا هل سَبَحتم؟ثم طبيعة العظام التي قضمتم؟

سأبقى في باريس طيلة الأسبوع، يلزمني الالتقاء ببعض الأشخاص وكذا الاشتغال على مجلة الأزمنة الحديثة.

تخنقنا حرارة المناخ طيلة اليوم؛والليالي أكثر حرارة لكنها أيضا ناعمة وجميلة، لذلك يمكننا تناول أطباق وجبات العشاء خارج المنازل في الحدائق أو أمكنة صغيرة ثم بعد ذلك الترجل مشيا لفترة طويلة بين مسالك أزقة تغص بالمارة وتبعث على المرح.

خلال الصباح، تغمر حيوية غير عادية الحي الذي أقطنه، لأنه يضم سوقا(2)بحيث تشتري النساء حاجياتهن من السمك، اللحم، الكرز، والخضر، فيحدثن ضجيجا جراء دوي الثرثرة والنقاشات والقهقهات. الأسعار مرتفعة جدا، لكن على الأقل البضائع متوفرة، والوضع يدعو إلى البهجة مقارنة مع حقبة كانت إبانها الشوارع خالية.

أحب اقتفاء أثر ذاتي، الصاخب والمتوقِّد، فأجدني داخل مقهى ”لي دوماغو” الباريسي قصد الانكباب على الكتابة إليكم، ثم الاشتغال لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات. بدأت أثابر من جديد، رغم أن الإيقاع لم يبلغ بعد المستوى المتوخى.

البارحة صباحا حضرتُ العرض الأول لفيلم فرنسي رائع(3)، الأفضل ربما. نواة حكايته بسيطة لكنها سردت بطريقة جيدة وغنية بدلالاتها: شاب وشابة في مقتبل العمر، أغرم أحدهما بالثاني، إبان حرب(1914- 1918)، الشاب يبلغ من العمر سبعة عشر سنة، والفتاة في سن العشرين تزوجت جنديا دون حبّ. لذلك، شكلت الحرب بالنسبة لهذين العاشقين الشابين فسحة، غير أن حبهما سحقه الكبار، لأن فتوّة سنّهما أفقدتهما ممكنات المقاومة، فانفصلا وتوفيت الفتاة. حينما انتهى الفيلم وأضاءت ثانية مصابيح قاعة السينما، لاحظت تأثر وحزن الجميع.

تحقق السينما الفرنسية في الوقت الراهن تطورا، إنها أكثر جرأة، وإنسانية وصدقا من هوليود. الحياة هنا مثيرة جدا للاهتمام، لكنها صعبة وعسيرة على الفهم، لأسباب عدة. يتعبني التحدث لكم عن هذا الموضوع، وقد شرحت لكم الوضعية شيئا ما، حينما كنت في شيكاغو، بسبب ضغط الفترة الزمانية. لذلك سيكون وضعنا مختلفا السنة المقبلة، لأننا سنقضي معا فترة أطول، ولن أتيح لكم المجال كي تنشغلوا، أو تنغمسوا في أمر آخر، وكذا الإسراع باستمرار وجهة حديقة الحيوان؛سأبقيكم جالسا بجواري طيلة ساعات وساعات مثلما جرى عليه الوضع ونحن في نيويورك.

أتمنى أن تتسم علاقتنا بحميمة عميقة، وينكشف أحدنا للثاني قدر مستوى عشقنا، أحتاج إلى ذلك. بالتأكيد الحب أولي، يمثل في حد ذاته معرفة. أنا فخورة بنا معا، إننا رائعان لكوننا استثمرنا إلى هذا الحد هامش الوقت الذي أتيح لنا. أتذكر، بأنكم قلتم لي خلال الليلة الأولى داخل سيارة الأجرة: “ليس لدينا وقتا كي نضيعه”. نفس العبارة، نسجتها شفتاي: “نعم، ممنوع تضييع الوقت”.

حقا لم نضيع دقيقة واحدة، لذلك لم أشعر بأن متسع حيزنا الزماني لن يتجاوز أسبوعا واحدا، مادمتُ قد أحسستُ بأني موصولة بكم عبر مئات الروابط، غير قابلة للتقويض.

صديقي، حبيبي، تمنحونني الكثير حتى من بعيد عبر الأثير. انصباب تفكيركم حولي، يمدني بالسكينة والفرح.

قبلات تخبركم بشكل أفضل عن مدى مكانتكم الغالية داخل قلبي.  

                     سيمون

…………………………….

*هوامش:

 (1)مؤلف”ياما”، ”الحفرة”(1909). الفكرة المستقبلية لرواية: ”الرجل ذو الذراع الذهبية”، استعارها نيلسون ألغرين من ملهمه ألكسندر كوبرين: ”هل تدركون، سيداتي، بأن الفظيع حقا يكمن في: عدم وجود هذا الفظيع!”

(2)المقصود سوق بوكي القائم غاية الآن.

(3)فيلم ”الشيطان في الجسد”(1946).

 

المصدر: رسائل سيمون دو بوفوار، غاليمار، 1997.

   

مقالات من نفس القسم