سيرة الاختباء (8)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 213
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

في تلك الزيارة الوحيدة لمنتدى عروس النيل الأدبي بداية التسعينيات، أي المرة الأولى التي أحضر فيها “ندوة”، وألتقي بـ “أدباء” كي “أقرأ محاولاتي القصصية” أمامهم؛ في تلك الزيارة قابلت شعراء فصحى وعامية وكتّاب قصة ونقادًا وباحثين في التاريخ والتراث، معظمهم بشيبٍ متحفّز، وكأنهم يرتدون الماضي طوال الوقت: ملابس قديمة، أقرب إلى الزي الرسمي لهيئة قطاع عام، ونظارات معتمة تحاول فلترة العالم، وساعات عتيقة مازالت تحسب الوقت رغمًا عنها.. حقيبة مهترأة تحت إبط أحدهم، خرج بها تقريبًا مع نهاية الخدمة في إحدى حكومات ما بعد يوليو 52، داخلها أوراق صفراء ـ منتزعة ربما من الدفاتر الوظيفية أيضًا ـ ومدوّن عليها قصائد عمودية بحروف كبيرة، مشكّلة بوضوح، ومرسومة بالمهارة التقليدية التي تؤهلها للمنافسة في مسابقات الخط العربي .. نسخة من عدد لمجلة “الهلال”، صدر منذ سنوات بعيدة، يتضمن قصيدة ربما لن يتوقف كاتبها مع كل معركة تدور في ندوة ما عن إشهارها كبطاقة هوية في وجه شاعر آخر سيتّهم بأنه شيوعي في معظم الأحوال .. حناجر تزعق لحماية الشعر كما نزل من السماء، وكما تتمثّل في تقاليده الأسس القومية التي يتلاعب بها شواذ قصيدة النثر، أبناء السفاح، الملحدون غالبًا، وعملاء الغرب عن قصد أو غفلة بكل تأكيد .. وجوه لا تحتاج لعلامة السجود، وأجساد لا ينقصها رداء الداعية، وأيدٍ لا يعوزها سبحة حجازية.

في هذه الليلة حصلت ـ كطالب في المرحلة الثانوية ـ على اكتشافات عدة: أن الطابع العدائي الذي يشملهم سيقف حائلّا أمام صداقتهم لي، وهذا يعني أن أيًا منهم لن يصلح لمشاركتي في تكوين جماعة من المغامرين على غرار أبطال سلاسل الروايات البوليسية، والتي كان من الممكن أن يكون موضوعها هذه المرة مرتبطًا بالكتابة والنقد الأدبي والحكايات التراثية، مثلما حاولت دائمًا من قبل مع رفاق المرحلتين الابتدائية والإعدادية .. أن وجودي في هذا المكان، وفي تلك اللحظة، وبالرغم من عدم التعرّض لاستهداف شخصي، يثقلني بخسارة جديدة، يمكن تلخيصها في أن مجرد الحضور في هذا الظرف الخاطئ يُعد خدشًا للكرامة، ستتوزع لذته في أرواح أولئك الذين أجلس بينهم، حتى لو كان هذا في حقيقته شعورًا متوهمًا يخصني فحسب، ولكنه مع ذلك يكفي لأن يكون الجوهر الثابت للأمر، الذي تتبدد معه أي اعتبارات أخرى .. أن بإمكاني الثأر مما حدث، وإعادة كل شيء إلى موضعه الصحيح باستخدام الطريقة ذاتها التي تعوّدت أن أعيش بها حياتي وهي الكتابة .. لهذا ستكون “المصفقون” هي القصة القصيرة الأولى التي أكتبها بتعمّد أساسي لرد الأذى تجاه شخص أو مجموعة بشرية، وذلك بالتأكيد ضمن أغراض بديهية أخرى.

لكن هذه القصة القصيرة لم تكن محض سخرية من أشخاص بقدر ما كانت خطوة مبكرة في محاولة اكتشاف مصدر الرغبة في حضور ملتقى أدبي، والتعرّف على كتّاب آخرين، وقراءة النصوص تحت أبصارهم .. في محاولة فهم الدوافع التي تقف وراء تصديق الضرورة في هذا الأداء الاعتيادي، والإيمان بأن ثمة مكسبًا يمنحه الالتزام به .. كانت خطوة مبكرة في محاولة اكتشاف ذلك الرجاء العفوي الخبيث الذي يُخلق مع بدايات الكتابة وينمو مع استمراريتها لحيازة الإقرار من الآخرين بـ “جودتها” .. الرجاء الذي دائمًا ما كان اللعبة الأثيرة لذلك الكائن الخرافي، العابر للعصور، المُسمّي بـ “الحياة الثقافية”.

مقالات من نفس القسم