سيرة الاختباء (30)

ممدوح رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

أفكر أحيانًا في أن ما أعتقده عن ذلك الماضي ليس كما كان حقًا.. أن محاولات فرض الهيبة الماكرة المقترنة بالسخرية من الارتباك الشخصي لم تتجاوز اللحظات النادرة، وأنني في المقابل كنت أرد بعقاب تهكمي أو بفرض هيبة مضادة بعيدًا عن الكتابة ودون حفر في جروح الحيوات الخاصة كما ذكرت من قبل.. لكنني أفكر أيضًا في أنه كان يكفي حدوث تلك اللحظات مهما كانت قليلة.. كان يكفي أن تحدث لحظة واحدة فقط، وبصرف النظر عن استجابتي لها حتى لو كانت أكثر عنفًا.. إن الأمر يتعلق بالمهانة الكامنة في ذلك الاضطرار لأن تخرج من بيتك ليلة بعد أخرى، وتمنح الآخرين فرصًا سهلة لاستغلال ما يعتبرونه ثغرات شخصية من أجل الصراخ على خلاصهم بطريقة مختلفة.. المرض المتجذر داخلك من قبل أن توجد ويجبرك على السعي وراء الاندماج بجاهزيتك الغريزية للانفصال عن ما تكتشفه حين يصبح ورطة أو غنيمة نصية على جانب آخر.

“النادمون على محاولاتهم الخاسرة والمهينة طوال الماضي لإقامة العلاقات مع الآخرين، وتبادل الأحاديث والضحكات الودودة مع الغرباء.. الذين يُعذّبهم تذكّر الثرثرة الطائشة التي تلاحقت طوال أعمارهم أمام “الأصدقاء”، الفاضحة للضعف، وللأسرار الشخصية التي لا يجب أن يعرفها أعدائهم.. المتورطون دائمًا في الإبداء الشكلي ـ على الأقل ـ وبمبالغة مذلة في كثير من الأحيان لمشاعر الحب والاحترام، حتى لو لم يكن لتلك المشاعر وجود بداخلهم، أو يخفون نقيضًا لها.. المرغمون من أغوراهم الغامضة على الاستعراض الكلامي لما لا يريدون قوله، والاحتفال المظهري بتصديق ما قد لا يقيمون له وزنًا على الإطلاق.. الذين لم يتوقف حسن الظن عن الارتحال بعمائهم من هاوية لأخرى، وأهدروا كرامتهم في كل وقت بحثًا عن الألفة داخل الأرواح الخاطئة، وفي منح الساخرين من غفلتهم إحساسًا متواصلًا بأنهم في أشد الاحتياج إلى البقاء برفقتهم.. الذين تتضاعف مآثرهم المضحكة كلما أرادوا إثبات أنهم في غنى عمّن أساء إليهم، وأنهم يمتلكون القدرة على تجاهله”.

تلك السطور من أطروحتي “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور” ـ قيد الكتابة ـ وهي من ضمن نتائج تجارب “الصداقة الأدبية”؛ حيث تقدم تشريحًا جماليًا ليس للخبرة الواقعية فحسب وإنما للكتابة التي تأسست عليها أيضًا.. إن “السذاجة” كحكم أو كتعريف هي هاجس ذاتي أولًا يسبق الدلائل أوالقرائن التي تبرهنه خارج الجسد.. حصيلة مراقبة لمأزق الحضور تمتد منذ الطفولة وحتى تصير وعيًا انتهاكيًا لما يهيمن غيبيًا على هذا الحضور.. تأمل يتجاوز التعايش مع الوجود إلى تفكيكه بصورة انتقامية تشمل كائناته أحيانًا لا بوصفهم أعداءً وإنما كعناصر لسيطرته المطلقة.. كأدوات يستعملها في حرب الأقنعة حين تصبح حقائق للعالم.

“السذاجة” كذبة مثل “المكر”.. “الموبقات” كذبة مثل “الفضيلة”.. يمكنك أن تصدق الأكاذيب ولو ظاهريًا على الأقل.. أن تتصارع مع الآخرين مستخدمًا تلك الأكاذيب.. هل ستكتفي بذلك؟.. ذلك هو السؤال الجوهري الفارق في لعبة تبادل الأدوار بين الإلهي والبشري.. بين السيد الخفي المزعوم والعبد المضلًل من السماء.. يصبح البشري إلهًا ـ مناقضًا للألوهة ـ كلما كشف عن الغياب في وجهٍ يدعي أصالته.. يصبح الإلهي بشريًا ـ ماسخًا للبشرية ـ كلما تجرّد من المعنى.. تلك سطور أخيرة من “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور”:   

“لا ينطوي تأمل “الساذج” ـ كما يُعرّف نفسه ـ لما يظن أنه فرد “حائز للنباهة” على تلهف لأن يصير مماثلًا له، وإنما يتفحص اللهفة ذاتها التي تسبق التأمل.. يحدّق في استفهاماتها المحتملة كما يليق بكائن تعطّلت “إرادته” أو بالأحرى اتخذت رداء العطالة، أمام التفكير في “الإرادة”.. هو ليس خاسرًا الآن على النحو الذي اعتاد عليه، وإنما يتساءل عن طبيعة ما يخسره.. لا يرجو الحصول على “الإدراك” الذي يتصوّر أن الآخر يتمتع به، بل يراوغ هذا الإدراك كي يراقب ما يطلق عليه “النضوج” في التعامل مع الواقع، وكذلك المعاناة الناجمة عن غيابه.. المراوغة التي لا تتعلّق بالإدراك فحسب، بل بتذويب ارتباطه بـ “الفكر الخالص” أو بـ “الأشياء في ذاتها”؛ فالنضوج ـ بالتضاد مع شوبنهاور ـ لن يستند إلى موضوع أو نموذج أصلي فيما وراء العالم”.

مقالات من نفس القسم