ممدوح رزق
لا يعنيني الاعتقاد الساذج لدى البعض – أو الكثيرين – حول مثالية (الأديب) أو (المثقف)، كما لن أتوقف أمام الإدانات (المصدومة أحيانًا) تجاه الشاعر المغتصِب أو الناشر المتحرش أو الكاتبة التي لم تمانع في قبول جائزة من حكومة عربية داعمة لـ “تحيا مصر” .. ما أفكر فيه الآن هو متى تغضب الجماعة الأدبية؟ .. ما هو المعيار (الأخلاقي) لديها والذي يترتب عليه الاحتفاء أو القبول أو التغاضي أو الإدانة؟ .. هل يجسّد هذا المعيار تركيبة “الأمان الثقافي” الذي يحتاج أفراد هذه الجماعة للإبقاء على هيمنته، أيًا كانت نتائجه؟
كان الأمر عاديًا جدًا حينما كتب الشاعر قبل سنوات ( لم يكن مغتصًبا جنسيًا بعد) مقالًا في إحدى المنصات البائسة مهنيًا يتضمن سبابًا عنصريًا نابيًا لجمهور أحد الأندية المصرية .. كان الناشر (قبل الاتهام بالتحرش) واحدًا من الشخصيات محل التقدير في الوسط الأدبي بالرغم من دوره المؤثر في ترسيخ صورة طبقية زائفة للكتابة المصرية عن طريق الترويج والإلحاح المتواصل ولفترة طويلة على الأسماء التي تحملها أغلفة إصداراته، مستغلًا علاقاته المركزية المتشعبة .. كانت الكاتبة (خلال الزمن السابق لحصولها على الأموال الخليجية الطاهرة) إنسانة لطيفة وظريفة وجديرة بالاحترام حينما كتبت منشورًا على فيسبوك تصف فيه صحفية أرادت عقد حوار معها بأنها (لحوحة وغبية)، وكذلك حينما كتبت على فيسبوك أيضًا تعليقًا حاقدًا ينطوي على تفسير معتوه وجاهل ومثير للضحك والشفقة على كلمات كاتب آخر كان قد نشرها على صفحته ولم تكن لتلك الكلمات أدنى علاقة بها.
هذه ليست أخطاءً أصلًا في نظر الجماعة الأدبية، وإن كانت كذلك ـ في أفضل الأحوال ـ فهي ليست خطايا كالاغتصاب والتحرش والتطبيع مع حكومة دولة ترعى “الحريات” في بلد آخر .. يجب أن ترتكز الجماعة الأدبية على التفرقة بين “الأخطاء” و”الخطايا” لتحمي نفسها من الازدواجية والتناقض .. لكنها حين تتعامي ـ قصدًا ـ عن “الأخطاء” باعتبارها جزءاً من “الخطايا” فلن تستطيع أن تحمي نفسها من الانتهازية والتسلّط .. السباب العنصري في مقال لا ينفصل عن الاغتصاب الجنسي .. المساهمة الفعّالة في توطيد مشهد تراتبي كاذب للكتابة المصرية لا ينفصل عن ممارسة التحرش .. الإهانة المتغطرسة والاستقوائية بالمريدين تجاه شخص لم يبادر بأذى لا ينفصل عن التطبيع مع “الملائكة” .. فعل ليس أقل أو أكثر فظاعة من فعل آخر .. ارتكاب يشير ويدل ويؤكد على ارتكابٍ آخر .. ينبغي على الجماعة الأدبية ألا تعترف بعدم الانفصال هذا لأن الاعتراف يجرّدها من هويتها .. يعزلها عن جوهرها .. يحرمها من الغرض الذي تكوّنت على أساسه.
لست في خندق المدينين أو المُبرئِين أو حتى المحاكِمين فيما يتعلق بـ (الاغتصاب والتحرش وقبول جائزة من نظام سياسي مستبد) .. أنا أشرّح وأفكك المبررات التي حُفرت من أجلها هذه الخنادق .. أخلق الاستفهامات التقويضية للدعائم التي تُبني عليها “المواقف النبيلة” في لحظات “انتقائية” معينة: لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لشاعر فضّل أن يكون وضيعًا على أن يصون المهبل الذي خرج منه؟ .. لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لناشر أفّاق، يوظّف “غلمان وجواري القاهرة” ليراكم أرباحه كـ “مثقف كبير”؟ .. لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لكاتبة متعجرفة، توزّع هشاشتها عداوات كوميدية، اعتمادًا على مكانة في الوسط الأدبي لم تكن لتبلغها لو كانت قد كتبت كل ما كتبته وهي لا تزال مقيمة في قريتها أو حتى في المركز الذي تتبعه قريتها أو حتى في عاصمة المحافظة التي تتبعها قريتها؟ .. ما الذي تغيّر؟ .. الاغتصاب؟ .. التحرّش؟ .. التطبيع مع كيان عربي يعتني بـ “الجمهورية الجديدة”؟ .. تحقق ما تم اعتباره “جرائم فعلية”؟ .. التفاوت في طبيعة “الإثم” بين ما قام به الشخص نفسه سابقًا والآن؟ .. أم لأن شروط “النفعية الثقافية” اختلفت، وبالضرورة أنتجت مقتضيات جديدة؟ .. هل “المصلحة الثقافية” هي “المعيار الأخلاقي” الذي يحكم شكل “الحقيقة” والخطوات التطهرية الناجمة عن تبنيها في وقت محدد لدى الجماعة الأدبية؟
إن حماية ما يتم اعتباره سلوكًا بديهيًا مبررًا أو بنوع من الكرم “هفوات ممكنة” تستهدف الحفاظ على ما تمثله تلك النماذج “المركزية” كالشاعر والناشر والكاتبة من أمان طاغ؛ إذ ينطوي الاعتناء بهم على فرصة لكل مشارك أو مساهم في رعاية وجودهم باللايك والتعليق المؤيد أو الممجد وبالمشاركة التضامنية والاحتفائية … إلخ؛ ينطوي على فرصة للاستفادة بالمعنى الشامل .. إما مكسب مباشر أو مؤجل أو محتمل .. اكتساب قدر من لمعان وهيبة المنزلة الرفيعة التي يحتلها هذا النموذج ولو على المستوى النفسي كنوع من التعزية الخبيثة لعدم بلوغ فرد الجماعة تلك المنزلة .. حينما أوثق إشارة أو علامة معلنة تفيد وتدل على رضائي أو مساندتي لتصرف أقل ما يوصف بـ “عدم النزاهة”؛ فإنني أصير جزءًا من الوعد الضمني الذي يحمله صاحب هذا التصرف بأن أكون مثله .. أن أحقق ما صار إليه .. أن أكون جانبًا من سلطته حتى لو كنت أكثر المتضررين من ترسيخ هذه السلطة “كالإقليمي الحالم والمكافح لأن يكون ابنًا للفردوس القاهري”.
يحق لي قول هذا .. ليس لأنني واحد من جماهير ذلك النادي التي تم الإساءة إليها، وواحد من الكتّاب الذين دفعوا ثمن الصورة الطبقية الزائفة للكتابة المصرية، وواحد من الذين حاول مزيج الحقد والعته مناوشتهم فضحكوا شفقة؛ وإنما لأنني ـ ببساطة ـ لست فردًا من الجماعة الأدبية .. لأنني خارج “الأمان الثقافي” الذي يجب أن أوظّف معاييري الأخلاقية بحسب مقتضياته .. لأن القدرة على الانفصال عما يلهث ويتصارع من أجله الآخرون أبقتني دون تهديد.