سيرة الاختباء (23)

«ممدوح رزق» الخارج عن النص
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

في قصتي القصيرة “مسألة عائلية” المنشورة في 23 أكتوبر 2020 على موقع “الكتابة”؛ استخدمت اسم دار نشر عبارة عن مزج تقريبي بين اسمي داري نشر معروفتين بسرقة الجوائز من خلال أذرعهما من الصحفيين في لجان التحكيم مقابل العمولات والمكافآت والإصدارات؛ ويكفي أن أذكر على سبيل المثال أنه بعد توزيع جوائز فرع القصة القصيرة لإحدى المسابقات الشهيرة عام 2016 بين أعمال هاتين الدارين؛ أصدر أكثر من عضو في لجنة تحكيمها كتابًا عنهما، بما فيهم رئيس لجنة التحكيم نفسه، قبل أن يفوز أحد هذه الكتب بعد ذلك بنفس الجائزة وفي فرع لا ينتمي إليه، كواحدة من أكثر فضائحها تبجحًا.. أما الصحفي في القصة، وقد استعملت اسمه الأول الحقيقي، فهو صحفي معروف في الواقع بلقب “شماشرجي الجوائز”، وكان يعمل “مستشارًا” لدى إحدى هاتين الدارين، حيث كان يضمن كسمسار بارع حصدها للجوائز بفضل علاقاته القوية والمتشعبة داخل الوسط الثقافي العربي، وتنقله الدائم بين لجان التحكيم، وما زلت أتذكر ما قاله عنه أحد الروائيين القاهريين المعروفين أمامي وأمام أعضاء مختبر السرديات بالمنصورة بأن ذلك الصحفي من الوارد جدًا إذا توافقت “حساباته” معك أن يُخرج هاتفه المحمول ويتحدث مع أشخاص عدة أمام عينيك ويخبرهم بأنك تستحق الجائزة القادمة في إحدى المسابقات، أو أنه مر عليك وقت طويل منذ آخر جائزة حصلت عليها؛ لذا فمن الواجب أن تفوز بها هذا العام، وذلك ما سيتحقق بالفعل، وهو الكلام نفسه الذي سبق أن أكده روائي قاهري معروف آخر قبل عشر سنوات من هذه الواقعة في المنصورة أيضًا حين كان برفقتي مع أعضاء جماعة “إضافة” الأدبية.

لا أحتاج للتحدث عن “إله السرد”، و”الظاهرة التي قد لا تتكرر”، و”أمير الرواية الذهنية” أكثر من كونهم ـ كما جسّدتهم القصة ـ يثبتون من خلال هذه الألقاب التي يطلقونها على أنفسهم أنهم أشبه بالرُضّع الذين يحتاجون هذه اللافتات المضحكة والمثيرة للشفقة “البزازة” للشعور بالراحة “القيمة” التي يعذبهم افتقادهم الدائم لها مهما بدا لهم وللآخرين أنهم قد أنجزوا شيئًا بصورة أو بأخرى.

تناولت القصة أيضًا من يُسمى بـ “القارئ المحترف”، و”الناقد الأكاديمي”.. الشخص الذي يبدو كأنما يقول للكاتب طوال الوقت: بما أنني أقرأ كثيرًا، وأكتب مراجعات باستمرار، وأواظب على حضور حفلات التوقيع، وألتقط صورًا كثيرة داخلها ثم أنشرها على فيسبوك، ويوظفني كتّاب ودور نشر للترويج لإصداراتهم؛ فإن “انتقادي” لعمل أدبي ما هو أمر صحيح ومبرر ويجب الأخذ به.. الشخص الآخر الذي في المقابل يبدو كأنما يقول للكاتب طوال الوقت أيضًا: بما أنني أمتلك “العلم” الذي يثبته حرف الـ “د” الذي يسبق اسمي؛ فإن “انتقادي” لعمل أدبي ما هو أمر صائب ومنطقي وينبغي الاعتداد به.. شخصان يوجهان نفس الإدانة للكاتب، ولكن أحدهما “الناقد الأكاديمي” يتعالى على الآخر “القارئ المحترف” باعتباره لا يحظى بـ “المكانة العلمية” التي يمتلكها، بالرغم من كونهما يتطابقان في التأويل الساذج والعدائي ذاته.. لا يتعلق الأمر كما جاء في القصة بالاقتباس من “رينيه ويليك”؛ إذ أنه من العادي أن يتضمن تحليلك لنص ما على اقتباس أو أكثر، ولكن يتعلق الأمر بأن يحضر الاقتباس أو يغيب في سياق إدانة الكاتب التي تنطلق من ادعاء متوهم وهزلي بأن “المتلقي العربي” مثلًا كيان واحد، وأن القارئ المحترف أو الناقد الأكاديمي هو هذا الكيان؛ يعرف ما يناسبه، وما لا يتلاءم معه.. يتعلق الأمر بمراقبة الكاتب وعقابه، وفي خضوع الكاتب لهذا الترهيب نتيجة التدجين المتواصل، ورغبته في النجاح والانتشار.. الكاتب الذي أحيانًا ما يكون شخصًا ثقيل الدم، يتبرز سماجته على فيسبوك باعتبارها كوميديا، مُنظرًا لرداءة الكتابة العربية، وفساد جوائزها حين يصيبه الإحباط، ويعجز عن الحصول عليها، ثم ممتدحًا تميّز هذه الكتابة، وقيمة جوائزها حين ينال التقدير، ويفوز بإحدى تلك الجوائز.

بالعودة إلى مشروعي النقدي الجديد “كيف يُصنع التاريخ الأدبي” الذي أشرت إليه في المقال السابق؛ تفرض نوعية من الجوائز، وبقوة “المال والشهرة ودعم المرافق الثقافية للعاصمة” مثلما كتبت من قبل، تفرض “حقيقة رسمية مخادعة” بواسطة تثبيت “الحكم بالتفوق” لأسماء محددة، يتم تكرارها والإلحاح عليها، وفقًا لعلاقاتها الشخصية، ولهيمنة دور النشر التي تصدر أعمالها، وهو ما يؤدي بالضرورة في المقابل لإقصاء أسماء أخرى لا حصر لها، يُنظر إليها في مرتبة الجدارة الأقل نتيجة انفصالها عن دوائر صنع القرار “خاصة التي تقيم خارج المركز”، وعدم صدور أعمالها عن دور النشر المتوطدة في السطو على الجوائز.. هذا ما يحافظ على التأثيرات غير المحكومة التي “تصنع التاريخ الأدبي” من حيث المضاعفة المستمرة لتكريس هؤلاء الذين يتم الاحتفاء بأعمالهم دائمًا، وامتلاكهم المزيد من السطوة الإعلامية، والتقدير النقدي، والانتشار الأوسع، في مقابل التمادي في التعتيم على أعمال “الآخرين” الذين لن يكتسب قارئ أو ناقد أو مترجم “حضورًا لامعًا” إذا ما اقترن بها؛ فما أكثر الذين لا يقاربون النص إلا بناءً على الضوء المضمون الذي سيستمدونه من الرونق الدعائي لصاحبه، وليس هناك أسهل من مراجعة الإصدارات الأدبية التي تتناولها دراسات الأكاديميين العرب سواء في الجامعات العربية أو الغربية للتيقن من تركيزها على الكتّاب القاهريين ودور نشر قاهرية معيّنة حين يتعلق الأمر برصد وتحليل “الإبداع المصري” في موضوع أو قضية ما.. هذا ما يجعل الذي يحصل عليه هؤلاء “الآخرون” أشبه بخيوط سحاب يتملّكها الزهو حين تتسلل إلى ظلام الحجرات النائية.

مقالات من نفس القسم