ممدوح رزق
في طريق عودتي إلى الفندق بعد انتهاء مناقشة روايتي “إثر حادث أليم” كان ابتهاجي نابعًا من كل شيء حدث خلال الساعتين الماضيتين: اللقاء برفقة عزيزة، أكن احترامًا لشخصياتها: أ. سيد الوكيل، د. حمدي النورج.، د. رضا عطية، أ. وائل سعيد، أ. مصطفى رزق.. الكلمات التي قيلت عني وعن الرواية .. الجلسة الودودة في المقهى بعد الخروج من المركز الدولي للكتاب .. حتى الطقس الغادر الذي أجبرنا على إنهاء هذا اللقاء لم يكن سيئًا تمامًا، بل ربما وقتئذ كان له حميمية خاصة.. كل شيء عدا اللحظات التي تحدثت فيها الرواية.. اللحظات التي اضطررت للإجابة فيها عن تساؤلات بشأن كتابتها.
قد لا يشعر من حولك بهذا، بل على النقيض ربما ينظرون إلى الأمر كأداء كاشف، ملهم، حدث بطريقة جيدة، ولكنه لم يكن بالنسبة لي أقل من خيانة للنص باستخدام الجسد والصوت والشفاهة، أي الأطراف الصناعية المرتعشة للواقع، التي كلما زاد وقت استخدامها كلما كان ذلك تماديًا في انتهاك الكتابة.. كان منطقيًا أن أفكر مجددًا بينما أجلس بمفردي داخل شرفة الفندق في أن عدم وجود الكاتب شرط مثالي متعذّر لمناقشة عمله الأدبي.
لم أكن أعرف أنه بعد هذه الليلة بعام ونصف تقريبًا، ستناقش مجموعتي القصصية “مكان جيد لسلحفاة محنطة” في مكتبة إسحاق الثقافية بفرع ثقافة المنيا دون حضوري، بل وحتى دون علم لي بذلك؛ إذ لم أعرف بانعقاد هذه المناقشة إلا في اليوم التالي من خلال الصحافة وفيسبوك .. ما أسعدني إلى جانب الإشادة الرائعة بتميّز المجموعة في التغطية الخبرية للمناقشة هو عدم وجودي في الصور التي نُشرت معها، مثل المرفقة بهذا المقال.. لم يكن حاضرًا أداة الإخماد الخيالي أو تخريب التوقعات أو تشتيت الرؤى بعيدًا عن متن صامت، نحو ما هو واضح وقاصر وأقل كلفة.. لهذا كانت سعادتي مختلفة، غير مسبوقة، تليق بحدث لم أجرّبه من قبل.. لكنني فكرت أيضًا: ماذا لو تضمنت مناقشة عمل أدبي، في عدم وجود كاتبه، محاولة جماعية لتشريح الدوافع ـ إذا كانت معلنة بالفعل ـ التي تقف وراء نظرة هذا الكاتب لحضوره الجسدي في المناقشة باعتباره تضليلًا؟.
أفكر الآن، وبصورة عفوية تمامًا في رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون”، وكيف أن السطور السابقة يمكنها أن تفسّر لماذا لم أحرص على عقد مناقشة لها منذ صدورها عام 2014 وحتى الآن.. كيف أن النميمة المضحكة حول “واقعيتها”، والتي ما زالت تصلني عنها تدعم هذا القرار.. لكن الأمر بالطبع يتعلق بالكاتب نفسه، وليس بضرورة شاملة، يتمثل الصواب في اتباعها، والخطأ في الخروج عنها.
قد يجد كاتب ما أنه من “المفيد” أن يتحدث عن عمله أمام قراء، حتى لو أجبر على شرح أو تفسير أو كشف التباس ما، وربما يظن أن بوسعه التحكم في تلك اللحظات إذا ما تعمّد أن يطرح إجابات مراوغة، أو بالرفض القاطع للرد على استفهامات معينة، ولكن في الوقت نفسه ثمة من يعتقد أن النظرة في عيني هذا الكاتب، وملامح وجهه، وحركة يديه عندئذ كافية تمامًا لإفقاد النص شيء من الغموض الذي لا يمكن تعويضه بما هو مغاير له، أتحدث عن التأويل النفسي لجسد الكاتب كنوع من المقاربة الأساسية أحيانًا للعمل الأدبي، الأقكار العدائية المحتملة التي لا يمكن لدهاء الكاتب أو صمته أن يضمنها إذا ما أصبح مرئيًا بجوار النص.. لذا، وقبل كل مناقشة لكتاب لي، امتلك يقينًا بأن جرحًا روتينيًا سأضطر لحفره بنفسي داخل الذكرى الجميلة التي سأعود بها.