سيرة الاختباء (29)

ممدوح رزق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

لماذا لم يقتصر الثأر الذي كنت أستثمر قصصي لتمريره من أصدقائي الكتّاب والفنانين على الهوس الكوميدي المتواصل بفرض الهيبة الماكرة وامتد نحو ما يعتبره الآخرون موبقات أو رذائل؟.. يتعلق الأمر برغبتي العفوية في إيذائهم بصورة أعنف.. أن أضعهم أمام النظرة الاحتقارية لمن يعرفون حكاياتهم كعقاب أشد ضراوة على النظرة المهينة التي كانوا يرمقون بها من يصنفونه ككائن ساذج.. يتعلق الأمر بالكرامة: إذا كان الإلحاح المربك على الاندماج الاستقصائي في مجموعة “مثقفين” مبررًا لانتهاك تلك الكرامة بالنسبة لكم، فحيواتكم الشخصية متخمة بمبررات تمزيق كرامتكم بالنسبة لبشر ٱخرين.. لكن هذا ليس كل شيء.. كانت المسألة تنطوي أيضًا على انتقام من عدم امتلاكي لأجساد النساء التي تعبر أسراركم.. كل النساء سواء كن ضمن الأطر الرسمية أو خارجها.. كانت قصصي تفعل ذلك بينما تحاول تصفية حساباتها مع الألم الغيبي.

لم تكن الحياة التي كنت أعيشها مع زملائي في قصر ثقافة الطفل مثالية، ولكن كان الوعي بالشر كمغامر صغير في نهاية الثمانينيات وسط مجموعة من الأقران المستكشفين لغموض العالم داخل مكتبة القصر أو في حجرة السطح بمنزل أحدنا أو فوق السور العلوي العريض للمنحدر الأسفلتي المطل على النيل؛ كان الوعي بالشر أقل حدة من ذلك الأرق المُهلك لدى الجالس في المقاهي بين كتّاب وفناني المدينة في نهاية التسعينيات وبداية الألفية.. كذلك تجربة الصداقة الأدبية في دراما الثمانينيات داخل المقاهي الشعبية القديمة وحجرات المكاتب وصالونات البيوت لم تكن ذات حميمية منقذة.. لكنني كنت أراها كذلك.. كنت أفكر فيها بتلك الطريقة كوعد يمتلك بوادر أو إشارات حضوره.. الوعد الذي دائمًا كنت أجابهه كلما أعطى احتمالًا بأنه على وشك التنفيذ، وذلك تحديدًا كان الدليل الأقوى على أن الطفولية قناع من ضمن الأقنعة التي ألصقها الآخرون بوجهي.. الأسرة والمعلمون والغرباء الكبار.. لو كانت الطفولية وجهًا أصليًا لما كان هناك سوى تصديق الوعود فقط.. لما كنت قد كتبت تلك القصص القصيرة التي تنتهك أقنعة الآخرين.. كنت أغادر هازئًا مسرح أحداث كل وعد كلما أبدى إيحاءً بأنه سيحقق الرجاء المطلوب، وقابضًا في نفس الوقت على غنائم تشريح زيفه.. لم يكن هناك شيء بوسعه أن يجعلك تمتلك الدنيا وما ورائها، وكان يجب أن تدرك ذلك بواسطة فرديتك التي تخترق الجماعات المتباينة وتتقمص أحلامها وتتجاوز حدودها بسخرية غريزية كأنما تُخضع العالم بشكل مضاد.

مقالات من نفس القسم