سيرة الاختباء (15)

موقع الكتابة الثقافي art 31
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

سأكتب عن كورونا طبعًا .. ليس لأنه كابوس الواقع الأكثر جدارة بالكتابة، ولا لأن طغيانه المروّع لم يعد يسمح بالتفكير في الحياة والموت إلا بمشيئة تأثيراته المتطورة، وإنما لتقاطع طبيعته الجحيمية مع “سيرة الاختباء”.

قرب نهاية 2019 تعرّضت لأزمة مرضية لم أمر بها من قبل، سواء من حيث الألم اليومي أو طول مدة المرض والذي انتهى باكتشاف وجه آخر لضراوته غير المسبوقة بالنسبة لي .. أدركت بعد فترة قصيرة من الشفاء أن الدواء الذي تناولته خلال هذه الأزمة قد تسبب في مرض جديد .. من ضمن الفروق الأساسية بين المرضين هو أن الأول كان معطلًا على نحو كبير عن الكتابة .. كانت هيمنته على وعيي أكثر حقارة من أن تترك هامشًا غامضًا من الحياة المألوفة التي يمكن للفكر أن يتحرّك داخلها.

هذه المقارنة دفعتني لتدوين ملاحظة عن أن كتابة المرض تحتاج لمساحة مبهمة من “اللامرض” في جسدي .. لماذا لم أكتب مساحة مناسبة من “الصحة”؟ .. لأن الصحة خرافة .. بعكس اللامرض الذي يعطيك انطباعًا متوهمًا بغياب العلة، مؤكدًا ذلك في منع الألم أو الانهاك من بلوغ الوضعية المتفاقمة التي تجبرك على التوقف عن الكتابة، أو تجعلها على الأقل بالغة المشقة كما هو الحال الآن .. كتابة المرض التي تحتفل بتحويل العلة الجسدية إلى ممر مرآوي نحو علة الذاكرة والزمن والوجود .. نحو المرض “كحالة العالم عمومًا” حين نتذكر كيركيجارد.
بناءً على ذلك، وإذا كان “الاختباء” هو محل التقاطع بين كورونا و”السيرة”؛ فإن الاختباء يتطلب هامشًا غامضًا مماثلًا من الحياة المألوفة التي يمكن لتأمل كينونته أن يتحرك داخلها .. لا يترك كورونا تلك المساحة المبهمة من “اللاتهديد” المعادل لـ “اللامرض”، وليس “الأمان” باعتباره خرافة كـ “الصحة” تمامًا .. امتلاك الانطباع المتوهم بغياب الخطر الذي يتربص بالاختباء حينما يكون ضرورة أو إلزامًا لا يحتمل التفاوض.

يكاد الأمر يشبه الفرق بين النظرة الجمالية والفلسفية التي تتفحص التنوّع الشهواني للمرض الأبوكاليبتي في لوحات “جان روستن”، أو ما يوازي “اللامرض”، و”اللاتهديد”، وبين إغماض العينين عن الرعب الذاهل الذي تجسّده تلك اللوحات بعدما فقدت جدواها بوصفها نبوءة ربما تكون على وشك التحقق بالفعل.

مقالات من نفس القسم