نور الهدى سعودي
لم تكن السماءُ أقلَّ زرقةً هذا المساء، لكن الضوء كان ألينَ على الجدران؛ ينساب مثلَ ماءٍ تعلّم التروّي بعد اندفاعٍ طويل. في المطبخ، تفوح من طبق الخوخ رائحةٌ حلوةٌ تميل إلى التخمر، والمروحةُ تواصل عزفها الرتيب كأنها تتدرّب على الصمت. لم يقل أحدٌ إن الصيف انتهى، لكن الأشياء قالت. حتى الظلُّ على سطح الطاولة كان أقصرَ قليلًا، كأن الوقتَ هو الذي يقف وراء الستارة يضمّ أطرافها، ويشير لنا أن نحضّر حقائبنا الصغيرة: حقائب النوايا المؤجلة.
خرجتُ إلى الشرفة، الشارع تحت قدميّ يمضي بلا استعجال. بائعُ الماء البارد أطفأ مكبّر الصوت مبكرًا، والقطُّ البرتقاليُّ الذي يختار كلَّ يومٍ رقعةَ الشمس عند الثالثة، كان يبحث اليومَ عن بقعةٍ جديدةٍ للدفء، كمن يختبر خريطةً أخرى للحنان. قلتُ لنفسي: ليست نهايةُ الصيف خبرًا موسميًا، إنها تمرينٌ على فنِّ الوداع الخفيف، أن تدع ما أحببتَه يمضي دون فوضى، وأن تشكرَه لأنك أحببتَه أصلًا.
في اليوم التالي، ذهبتُ إلى البحر كمن يلحق بقطارٍ يغادر. الشاطئُ أقلُّ ازدحامًا، والبحّار الذي يبيع الفطائر وخواتم المحار كان نصفَ غائبٍ في ظلِّ مظلتِه. الماءُ باردٌ بدرجةٍ تُذكّرك بأنك ليست لك سلطةٌ على الأنهار السرية التي تغيّر مزاجه. كان الصمتُ كثيفًا، لا لأن الأطفال اختفوا، بل لأن الموجَ نفسه صار أقلَّ ثرثرة. دخلتُ الماءَ بحذرٍ لا يشبه حذرَ البدايات؛ حذرُ النهايات أهدأُ، أكثرُ اعترافًا. وجدتُ عند الحافة صدفةً صغيرةً تشبه أذنًا، رفعتُها إلى خواء كتفيّ وقلت: سنصغي معًا لما يحدث في آخر الصيف. وضعتُها في جيب القميص القطنيّ الخفيف، كأنني أحفظُ أذنًا ثانيةً لحواراتٍ سأؤجلها مع نفسي.
عند عودتي مررتُ بحديقةِ العمارة. كان الرجلُ العجوز يقطف آخرَ أوراق الريحان. قال وهو يفركها بين أنامله: «البذور تحتاج قليلًا من الجفاف لتنفجر حياةً جديدة.» ابتسم ولم يشرح أكثر. فهمتُ ما لم يقله: لا يولَد شيءٌ في حرارةٍ مطلقة. إننا نحتاجُ قليلًا من البرودة كي نصغي إلى ما نريدُه بالفعل، لأن الرغبةَ في الحرّ تندفع، أمّا الإرادة في الرفق فتهمس. نهايةُ الصيف لحظةُ الهمس الكبرى.
في الأحياء، تتبدّل اللغة. محلاتُ الأدوات المدرسية تنفتح مثلَ دفاتر جديدة، والنسّاجُ يخرج أقمشةً بألوانٍ أقلَّ صخبًا، والمقهى الذي كان يعيش على عصير البطيخ والبرتقال، يعيد صيانةَ آلة القهوة. الازدحامُ نفسه يُغيّر وظيفته: من تكدّسٍ حول الشاطئ إلى طابورٍ أمام مكتبةٍ لشراء دفاترَ بنقاط دقيقة. أراقبُ هذا كلَّه وأنا أفهمُ أنّ الزمن لا يمشي فقط، بل يغيّر أصواته. وأننا لا نقيس الشهورَ بالتقويم بقدرِ ما نقيسها بارتفاعِ الضجيج وانخفاضِه في صدورنا.
كلُّ نهايةِ صيف تُعيد لي صيفًا قديمًا واحدًا. كان بيتُنا ممتلئًا بضوءٍ أبيض لا يخفت، وكانت أمي ترشّ الماء على الساحة الترابية في الظهيرة. ذلك العام، غادرت جدّتي في أواخر أغسطس في رحلةٍ لم ترجع منها. لم يكن الفقدُ ضجيجًا آنذاك؛ كان ابتسامةً مؤجلة على فنجان الشاي الذي ظلّ مكانه ثلاثةَ أيام. منذ ذلك اليوم صارت نهايةُ الصيف درسًا صغيرًا في الفناء، لا على طريقة الخسارة السوداء، بل على شكل تذكيرٍ أن الأشياء بما فيها الفرح تحتاج إطارًا لتظهر، وأن الإطار هو النهاية. ليس الحزنُ ما يجعلنا بشرًا فقط، بل استعدادُنا لأن نعطي للفرح حدودًا كي لا يذوب ويضيع.
تعلمتُ أيضًا أن نهايةَ الصيف تعيد ترتيبَ غرف النفس: رفُّ السهر يُنزل قليلًا، رفُّ العادات يرتفع. نخلط بين وقتنا ووقته؛ فنظنّ أن نهايته نهايةٌ لنا. لكن الحقيقةَ ربما أن في آخر الصيف فرصةً أخلاقية: أن نحاسب الوعود الصغيرة التي قطعناها لأنفسنا ونحن تحت الشمس الكتاب الذي سننهيه، الصديق الذي سنصالحه، الرياضة التي سنبدأها حين يبرد الجوّ. ها هو الجوُّ يبرد على مهل، فهل نفي؟ يختبرنا آخرُ الصيف بمقياسٍ بسيط: إلى أيِّ حدٍّ نتطابق مع ذواتنا حين يخفت التأثيرُ الخارجيُّ الذي يحرّك أرواحنا كالمراوح؟
أفتحُ النافذة. الهواءُ يدخل وفيه وزنُ ورقةٍ أولى سقطت قبل موعدها. ليس خريفًا بعدُ، لكنه خطابُ النوايا. في الخارج صبيٌّ يحمل حقيبةً أكبر من ظهره يجرّب خطواتِه داخل حذاء ثقيل. أمُّه تضحك وهو يتدرّب على طقسٍ جديد. أفكرُ أنّ التربية ليست تعليمَ الدروس فقط؛ هي تدبيرُ الفصول داخل الطفل: كيف يودّع؟ كيف يستقبل؟ كيف يشكرُ ما مضى دون أن يلعنه؟ وكيف يضع يدَه في يد القادم دون أن يُغرمَ بوعدٍ لا يطاق؟
الليلُ هذه الأيام يصبح أسرعَ في الوصول، لكنه لا يداهم. يطلب إذنًا. أجلسُ إلى المكتب. الصدفةُ التي التقطتُها من البحر ما زالت رطبةً قليلًا. ألصقُها بقارورةِ الحبر، كأنني أحتاجُ أذنًا إضافيةً وأنا أكتب. الكتابةُ في نهاية الصيف تشبه المرورَ بإصبعِك على زجاجٍ بارد: تترك أثرًا لا يُرى إلا في الضوء القاطع. أكتبُ عن أشخاصٍ عديدين يخفّفون من سرعة مشيهم هذه الأيام: رجلٌ ينظّف على عجل صورَ هاتفه فيكتشف أنّ أكثرها مأخوذٌ في النهار القائظ وأن السعادة تُحبُّ الضوء الساطع، طفل يودع بنهم لذيذ اخر عمود ثلجي لايس كريم يسيح، شابة تجرّب كلمةَ غدًا يوم جديد، وتجد أنها أكثر جدية حين يكون الهواءُ باردًا.
أستعيدُ درسين صغيرين علّمني إيّاهما أغسطس:
الأول: أن العيشَ ليس احتفالًا طويلًا، بل ترتيبٌ لنهاياتٍ جميلات. القسوةُ ليست في أن ينتهي الصيف، بل في أن نرفض الاعتراف بانتهائه فنصنع فوضى في داخلنا. التعقّلُ ليس خصمًا للشغف؛ هو ضابطُ إيقاعٍ يمنع الموسيقى من الصراخ. مثل انسحابٍ مهذّب يشبه طريقةَ الضيفِ الذي ينهض من المجلس قبل أن تفكر في النظر إلى الساعة.
والثاني: أن الذاكرةَ لا تحبُّ التعذيب. نهايةُ الصيف كانت دائمًا موسمَ جلدٍ للذات: لماذا لم أسافر؟ لماذا لم أعش بما يليق بالشمس؟ الآن أفهم أنّ الندمَ ترفٌ يستهلك طاقةً نحتاجها للعبور. بدلًا من السؤال ماذا فات؟ أسأل كيف أحمل ما حصل دون أن يثقل؟ وهذا سؤالُ تدريب أفعال، لا محكمة انجازات.
تسقطُ قطرةُ مطرٍ واحدة. ليست مطرًا، بل إعلانًا. الرائحةُ القديمةُ التي يتركها أولُ البلل على الإسفلت توقظ في الذاكرة مدنًا بعيدة سكناها في الحضور وتسكننا الان في الغياب، فناءاتٍ داخلية، وطفولةً تمشي حافيةً على أرضٍ مسقية. المطرُ الأول ليس غزارة؛ إنه اتفاقٌ مؤقت بين حرارتين. ربما لهذا أحبُّه: لأنه يشبه المصالحةَ التي نقوم بها مع أنفسنا دون ضجيج. نوقّعُ داخليًا وثيقةَ عفوٍ عن صبيٍّ كان يظنُّ أنه قادرٌ على جمع الصيف كلّه في راحة يد، وعن امرأةٍ كانت تتوهّمُ أن علاقةً ما ستُصلحها الشمس.
في المساء، أفتحُ الخزانة، أضعُ الملابس الخفيفة في رفٍّ لا يزال سهلَ الوصول. لا أريدُ قطيعةً مع ما أحببت. لا نحتاجُ إلى الانقلاباتِ القاسية كي نتغيّر؛ يكفي تعديلٌ في الارتفاع. أضع الستراتِ الرقيقةَ فوقها، وأترك قميصًا واحدًا قصيرَ الأكمام معلقًا على المشجب، كعلامةِ صداقةٍ مع الأيام التي مضت. الترتيبُ الخارجيُّ يساعد ترتيبَ الداخل، لا بوصفِه طقسًا قسريًا، بل بوصفه ترجمةً ماديةً لفكرةٍ بسيطة: أن نعرفَ أين نضع الأشياء كي نعرفَ أين نضع أنفسنا.
قبل النوم أتفقدُ النباتاتِ على عتبةِ النافذة. النعناعُ صار أقلَّ اندفاعًا، لكنه أكثرُ ثباتًا. أغيّرُ ماءَ المزهرية، وأقلمُ ورقةً ذابلةً من الغصن. أتعلم من النبات أنّ التجدّد لا يشبه الإعلانَ الصاخب؛ هو عملٌ صغيرٌ مكررٌ بأناة. أضعُ الصدفةَ بجانب السرير هذه المرة. أريدُ أن أصغي وأنا أغفو. يتهيّأ لي أنني أسمع حوارًا خافتًا بين فصليْن: يقول الصيف كنتُ كريمًا، ويقول القادم سأحفظ ما تركتَه في أوعيةِ المعنى. لا أشكُّ أنني أهذي قليلًا، لكن لكل نهايةٍ هذيانًا صغيرًا يسمح للروح بأن تقفز من صخرةٍ إلى صخرة.
أصحُو قبل الفجر بلحظة. الهواءُ أرقّ، والمدينةُ أقلُّ خوفًا. لا شيء عظيمٌ حدث، لكن كلّ شيء صار قابلًا لأن يحدث دون أن يجرح. أصنع قهوةً أثقل من المعتاد، في البعيد شاحنةُ الخبز تمرّ، وفي قريبٍ مني تمرُّ فكرةٌ بسيطةٌ وضرورية: نحن لا نعيش الفصول، نحن نعيش أنفسنا وهي تتبدّل. نهايةُ الصيف كلمةٌ يقولها الضوء، وتكتبُها أجسادُنا في نومٍ أقل اضطرابًا، وقلوبُنا في توقّعاتٍ أقلَّ شراهة. وحين نفهمُ هذا، لا نطلب من الشمس أن تعود من أجلنا، بل نشكرها لأنها بلغت بنا هذه العتبة، حيث يمكنُ للوقت أن يجلس معنا بلا تكلّف، ونتمكّن أخيرًا من أن نضعَ يدنا في يد القادم دون خوفٍ مبالغ فيه أو حماسٍ يعمينا.
أغلقُ النافذة، أتركُ شقًّا صغيرًا للهواء. على المكتب ورقةٌ بيضاء تنتظر. أكتب في رأسها وداعات الضوء الأخيرة لن يكون هذا نصًا عن الطقس، بل عنّا. عن كيف نتعلّمُ أن نخفّفَ السرعة، أن نحمل ما لا يُحمل، وأن نحبّ الأشياء من دون أن نطالبها بأن تُقيم. ربما لهذا أحبّ نهايةَ الصيف: لأنها تعلمنا أدبَ الإقامة المؤقتة، فنحسنُ استقبال ما سيأتي، ونحسنُ أكثر توديعَ ما أحببناه. هكذا فقط، حين يلين الضوء، نلين معه بما يكفي لنرى.