في الطريق إلى البيت، أطل شخص من نافذة سيارته وصاح بي فرحاً: “سمير، مبروك الرخصة”، لوّحت له بيدي مبتسماً ومتفهماً؛ فصاحب الوجه الذي أرتديه بالتأكيد اسمه سمير، ولا أدري لـم باع وجهه؟ ربما لحاجة مادية أو لأنه ملّ من ملامحه أو رغب في التخفي، أو لأسباب أخرى لا أدريها.
على مدخل الحارة حيّاني شخص ما لا أعرفه، لكني عرفته حين خلع ضاحكاً وجهه الغريب ولبس وجهه القديم الذي أعرفه به في الحارة “زوجتي سئمت من لزوجة دهن بشرتي، وطلبت مني أن أشتري وجهاً جديداً” قال لي ابن حارتي السعيد. في البيت خلعت الوجه الجديد، لبست وجهي السابق، خبأت الجديد في الخزانة، احتياطاً لحاجة قد تأتي، فربما يزورني صديق نسي وجهه على طاولة الـمقهى. في الصباح ذهبت إلى العمل بوجهي الطبيعي، فوجئت بزملاء لا أعرفهم، لكني عرفت فيما بعد أنهم اشتروا وجوهاً جديدةً، ضحكنا معاً وسعدنا بعيشنا في زمن تبديل الوجوه. في طريق عودتي إلى البيت، تألـمت حين وقعت على وجهي متعثراً بقشرة موز في الشارع، كاسراً عظمة أنفي، طمأنني صاحب منجرة طيب القلب، إلى أن هناك محلاً قريباً لتبديل وتصليح العيون والأنوف والخدود، وأن بإمكاني إصلاح أنفي الـمشوّه إن أردت بسعر قليل، فرحت بذلك، ازددت فخراً بالزمن الذي أعيش فيه، حيث إن كل شيء قابل للتصليح والشراء والتبديل.
اشتريت أنفاً جديداً، عدت إلى البيت، نمت قليلاً، خرجت مساءً إلى الـمقهى، لـم أعرف أصحابي هناك، يبدو أنهم غيروا وجوههم، أو استبدلوا أجزاءها الـمشوهة أو الـمعطوبة أو الهرمة، طلبت منهم أن يعرفوا بأنفسهم، فعلوا ذلك، شككت في هويات بعضهم، لكن لا بأس؛ فذلك ليس مشكلة كبيرة، بل هو سمة عصرنا العظيم، لعبنا الشدة، عدنا إلى بيوتنا، نمت بعمق لـم أعرفه منذ سنوات بعيدة، لكن حوادث غريبة حدثت في الـمدينة، أربكت حياة الناس ونظامهم وهوياتهم وعاداتهم وقيمهم، فقد ازداد الطلب على شراء الوجوه، بشكل محموم وغير مفهوم، بحيث لـم يعد أحد يتعرف إلى الآخر إلاّ إذا أبرز هويته، فتجد أن الرجل يعود إلى البيت، فيفاجأ بامرأة غريبة وأولاد غرباء وجيران غرباء، فيطلب رؤية بطاقات هوياتهم ويطلبون هم بطاقته، حينها يتحققون من حقيقة بعضهم البعض فيرتاحون، وصار منظر الناس وهم يلوحون ببطاقاتهم في الشوارع لبعضهم مثيراً للاستغراب، لكن لاحقاً صار الـمنظر عادياً ومتفقاً عليه. مرة من الـمرات، تبادلت مع زوجتي القبلات من شفاهنا الجديدة التي اشتريناها مؤخراً، بعد أن مللنا شفاهنا السابقة، فأصاب كلانا ارتباك مفاجئ وغريب، لقد تذوقت قبل عدة سنوات هاتين الشفتين، إن لهما طعماً يشبه طعم الـمشمش الـمندّى، إنهما شفتا لـمياء صديقتي أيام الجامعة، وقرأت في عيني زوجتي الـمرتعبتين، تذوقها السابق لطعم شفتي الجديدتين، أنكرت زوجتي، ألححت عليها أن تعترف وإلا سوف أطلقها (ألست أنا الرجل وهي الـمرأة؟) فأقرت بأنهما شفتا كمال، صديق شقيقها أيام الـمراهقة، طعمهما كما اعترفت يشبه طعم الزعتر البري، لكنها كما قالت كانت قبلات خفيفة وسريعة وخجولة، جن جنوني، لطمتها على وجهها، خلعت عنها شفتيها وخلعت شفتي، ركضت باتجاه السوبرماركت، طلبت استرداد شفتي زوجتي وشفتي، اعتذر البائع فقد باع شفاهنا قبل ربع ساعة، ارتعبت، ارتعبت زوجتي، عدنا إلى البيت محطمين، منذ ذلك الوقت ونحن بلا قبلات وبلا شفاه وبلا كلام، في مكان ما… كان رجل آخر وامرأة أخرى يستعيدان طعماً عذباً مميتاً لشفاه مشمسة ومسمومة لا تغيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص فلسطيني
والقصة من مجموعة (أسباب رائعة للبكاء) المرشّحة لجائزة الملتقى