سمكة تبحث عن أطرافها

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفتح عينيّ في كسلٍ، تداهمني رائحة زفارة تصيبني بالدوار، ألعن الحساسية التي جعلت أنفي مرتعاً لكافة الروائح وأسيراً لنوبات سعال مفاجئة، تحول مظهره لما يشبه أنف البهلونات الاصطناعية و فعاليته كأنوف كلاب التفتيش. الرائحة كمخدرٍ قوي يسيطر عليّ، كقوة عليا ترغمني على الاستيقاظ، وتجبرني على السير مترنحة حتى تجلسني على مقعد التواليت، وتدخلني رغماً عني تحت الدش لآخذ حمام صباحي علي أتخلص منها، ومع ذلك يبقى جسدي كالمنوم مغناطيسيًا ويبقى للرائحة خدرها.

أحاول مواصلة مقاومة تأثير الرائحة بإعداد فنجان مضاعف من قهوتي الصباحية، وحينما ابدأ تقليب المسحوق البني، يفاجئني صوت قرقرة صاخب، يشبه خرخرة المياه في أنابيب الصرف والبالوعات، أتوقف لحظات وأشحذ سمعي جيداً،واتتبع الصوت الآتي من حمام الضيوف.

أقطع الطرقة بتؤدة وحذر على أطراف مرتعشة، بينما تداهمني عشرات المخاوف والاحتمالات السيئة، أرفع غطاء الحمام، لأجدها، لا أرى منها سوى رأسها يعاني حشرجة ويجاهد لمقاومة الاختناق، بينما الماء يسحبها رغماً عنها للداخل، تقاومه محطمة كل قوانين الطبيعة، وتنجح أخيراً في الخروج، تتجاهلني تماماً أنا الواقفة المذهولة للمشهد، وتزحف حتى الصالة، لا أعلم لم حمدت الله في تلك اللحظة على أنني قمت بإرسال السجاجيد في اليوم السابق للمغسلة وإلا لما تخلصت أبداً من رائحة الزفارة، أنا المهووسة بالنظافة.

أرى زوجي جالساً على غير عادته في تلك الساعة الصباحية موجهاً ظهره لنا، وهي تزحف نحو عنقه العار، وتبدأ بالهجوم، فإذا بي أحمل أداة في يدي لا اعلم من أين أتت إليّ، تشبه شوكة طعام عملاقة، وأنجح في اختراق رقبتها بضربة واحدة. وحين تلوي عنقها إليّ، أفاجئ بوجهي يسدد نظرة لومٍ لي. وقبل أن استوعب الأمر استيقظ مرة أخرى، فأجدني مازلت في السرير، ولا أثر لأدواتٍ حادة ولا دماء بوجهي أو عنقي الذي اتحسسه بذعرٍ، ولكن مازالت رائحة الزفارة تملأ رأسي!

أقنعت نفسي بأنها مجرد "أضغاث حلم"، وبدأت لملمة رأسي وطرد النوم وسيرة السمكة منها. عدلت وضع الملاءات وأخرجت دجاجة من الفريزر، بدلاً من السمك الذي كنت أخطط لإعداده، ثم تراجعت عنه بسبب الحلم العجيب. غسلت بعض الأواني العالقة بالحوض منذ عشاء أمس. بينما استمر وجه السمكة الدامي أو وجهي على نحو أدق في مطاردتي، وشعرت برائحة الزفارة عالقة بين أصابعي فقمت بطردها بمزيد من نوبات الغسيل المتكررة.

قرأتُ مرة عن تأويلات الشيوخ لرؤية السمك في الأحلام، فأحدهم قال أن رؤية السمك في مجرى الماء في الحلم يشير إلي أن الحالم سيصبح من الأثرياء والمميزين، بينما بشّروا المرأة بحملٍ جديد إن رأت في حلمها سمكاً يسبح بالماء، وحينما تحلم أنك تتناول السمك فهذا يدل على أنك تتحمل المزيد من المتاعب في حياتك، والحلم بالسمك الميت يدل على خسارة المال والنفوذ، فيما لو حلمت بتنظيف السمك فهو يشير إلي أنك ستعتقد مزيد من الأفكار الجديدة في حياتك وستغير طريقة تفكيرك، ولكن ورغم كثرة التأويلات، لم تنجح جميعها في إيجاد تفسير لقتل سمكة تحمل وجه القاتل، أو الاستيقاظ ورائحة زفارة عالقة بأنفك.

سيرة السمكة ذكرتني ببشرتي الجافة تماماً، وكعب قدمي الذي تتراكم به طبقات الجلد المتيبس الذي طالما كان محط استهزاء فتاة الكوافير بي وهي تعايرني بالقدم التي تأخذ وقتاً مضاعفاً في التقشير، أتمنى أن أصبح سمكة رطبة وناعمة وملساء، دون أن أتحمل عبء الخلل في ميزانية الشهر بفعل بند الباديكير، أوارتفاع أسعار كريمات الترطيب.

أعقد النية على أن أدلل قدمي بجلسة تدليك وتقشير مجانية، باتباع وصفة منزلية قرأت عنها مؤخراً على صفحة نسائية على الفيس بوك، أحضر وعاءً بلاستيكياً، وأغمره بالماء الساخن، ثم أضيف بعضاً من المرطب، وامدد قدمي في استرخاء داخل الوعاء،وبعد قليلٍ امد يدي لتدليك أصابع قدمي، فتصطدم أصابعي بجسم أملس وشديد النعومة،وحينما أخرجها من الوعاء، تفاجئني بدلاً منها زعنفة طويلة بلا أطراف.

الغريب أنني لم أفاجئ بالأمر، بل استحسنته، فقط حاولت أن أتذكر أين وضعت تلك الأصابع المشاكسة أو متى استبدلتها بتلك الزعنفة الزاهية التي أعجبتني نعومتها،حتى لا تقع في يد غريب، وهي أطراف مستهلكة.فلعلّي فقدتها في إحدى نوبات نسياني لمفاتيح بيتي أو هاتفي عند بائع الخضروات.أو ربما استعارتها طفلتي لتكمل بها حفظ جدول الضرب لتكون الأسرع بين فتيات الفصل في الإجابة،أو لوضعها في حقيبة يدها كسلاحself defense”  تهدد بها معلماتها إن أسأن معاملاتها، أو لتواجه بها مدرب السباحة لذي يخلع حزامه ليفزع به المتدربين الصغار.

أليق جداً بفكرة كوني سمكة، وأتخيل وجه ابنتي حينما ترى تلك الزعنفة الطويلة، بالتأكيد ستسعد بتحولي إلى سمكة، وستفضلها للزينة، تضعني في دورق زجاجي وتتباهى بي أمام صديقاتها، وتبلغهن في براءة عن مميزات الأم السمكة، فهي تشبه بطلتها الكرتونية المفضلة، وستحقق لها أمنياتها دون شروط، ولن تصدر التنبيهات والأوامر المتكررة كآلة بوق.

سيفاجئ زوجي كذلك بهذا التحول، وربما سيشجعه ذلك على المكوث لفترة أطول بالمنزل، وربما سيختارني كطبق رئيسي مفضل، فالسمك حلو وخفيف، ويبقيه رشيقاً في عيون زميلات العمل، ومحط إعجابهن.متأكدة أنه سيتخلص أولاً من رأسي، فهي أكثر أعضائي إزعاجاً له، وكم كانت سبباً في معايرته لي، فنصف رأسي يأكله الهم، والنصف الآخر أفسدته القراءة، وكم من مراتٍ أبلغني باستهزاءٍ أن التفكير أصبح ضاراً جداً بصحتي،وسيبرر فعلته بأن رأس السمكة يتركز فيها كافة السموم، وتحتل مكاناً في المقلاة دون فائدة.

آه لو تحولنا جميعاً إلى أسماك، فرأسي يمتلأ بمميزاتٍ كثيرة للأسماك، منها الدم البارد، الذي بالتأكيد سيهدئ من عصبيتي، كما أن أسماك السطح زاهية الألوان، تتمتع بجاذبية عالية، وحتى الأسماك التي تسكن الكهوف ورغم ألوانها الباهتة، فهي تستعيد ألوانها إذا ما تعرضت للضوء،ربما عالج ذلك مخاوفي من جفاف البشرة وتغير لونها بفعل أشعة الشمس فوق البنفسجية، والذي فشلت كافة الوصفات الطبيعية والمنزلية في علاجه.

كما أنه في مملكة الأسماك وفي موسم التزاوج يصبح على ذكر الأسماك مهمة إغراء الأنثى واجتذابها، لذلك فهو يبدو في أبهى صورة وأزهى لون، وهكذا ستعفى النساء من أطنان من أدوات التجميل، وسينخفض معدلات استهلاك المواد النفطية بناءً على ذلك، وسيزدهر العالم ويصبح أقل شروراً وطمعاً، بالتأكيد لن يسعد ذلك مصنعو المواد التجميلية ومصممي الإعلانات.

 

بينما أعدد مزايا التحول لسمكة تدخل ابنتي وزوجي دون أن يعيرا لوجودي إنتباه، في أيديهما أدوات للطعام بأحجامٍ غير اعتيادية،سكينة وشوكة كبيرتان تناسبا وليمة ضخمة، وقبل أن أبدأ في نهر ابنتي لاستخدامها أدوات لا تناسب سنها، يجلسان بقربي، ويبدآن في التخلص من رأسي، بينما وجهي تتجمد ملامحه من الخوف.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال