حِـــمْلٌ.

أحمد برحال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد برحال

وأنا على سيارتي في اتجاه غرضي، توقفت احتراماً للأحمر، سمعت صرخات خلف الستار القصديري الذي أقامه البناؤون حاجزاً، لإكمال بناء عمارة من طوابق متعددة في أمن وأمان. رميت نظرة خاطفة فرأيت شخصاً بلباس الشركات الخاصة المكلفة بالحراسة، ينظر في اتجاه مكتب البيع وهو يصرخ مهدداً، يقول كلمات حادة قوية، يقول كلاماً مضمونه وعد ووعيد في اتجاه شخص.

    شخصياً لا أراه أمامي، ربما يبدو له هو، يبدو له شاخصا بوقفته التي تملأ عليه الفضاء أمامه، تجعله لا يستطيع أن يتنفس بشكل جيد، لا يفكر بطريقة حرة، يُضيق عليه المجال، ويعكر عليه الحياة المعكرة أصلاً بفعل الضغوط التي تمارس عليه من شظفها وقسوتها، وربما من جهات أخرى، إكراهات تنزل على رأسه وبالاً.

    أخذني التفكير كثيراً في قضية هذا المغلوب على أمره، فتذكرت الكثير من المشاهد، ومرت أمامي العديد من الصور، أناس يمارسون القهر، لا لشيء إلا لأن هؤلاء البسطاء في متناول أيديهم، ولأن المهنة التي يمتهنونها جعلت هؤلاء تحت إمرتهم، أو طبيعة الموقف تستدعي أن يلتمس منه هذا المقهور خدمة، وقد تكون من طبيعة عمومية.

    أخذتني اللحظة، فاستحضرت ما يمكن أن يعانيه هذا الحارس، اقتربت من المكان، بعد أن ركنت سيارتي في زاوية بعيدة عن الفضاء، حتى لا يلتفت إلى وجودي، اقتربت من مكان تواجده، تصنعت وضعية انتظار الحافلة، وأنا أنظر إليه بعينين مفكرتين، رأيته يلوح بيده اليمنى في اتجاه مكتب البيع وهو يصيح بشكل هستيري، وشرارات الغضب تتطاير مع الرذاذ المنبعث من فمه:

ــ سأضع حداً لكل الترهات التي توصيني بها، لن أقبل بكل الأوامر التي أصدرتَها، كل ما تفعله أنا على علم به، وسأخبر به الأجهزة المكلفة بتطبيق القانون.

 سأقول لهم إنك وضعت هذا السياج القصديري لتأكل الشارع، لتغير من هندسة الرصيف، لتقتلع الشجيرات التي بدأت تنبت على الجوانب. يعيد إحكام حزام سرواله بحركة اهتز لها جسمه كله ثم واصل، وهذه المرة بنبرة أقل من الأولى:

  ــ سأقول لهم: إنك توصي العمال بأن يقتصدوا في مواد البناء، بأن يكتفوا بالقليل القليل منها.

 سأقول لهم: إن الجدران بنيت بآجر أتيتَ به من حطام بناية قديمة، وأن الخرسانة تفتقر إلى ما يكفي من المواد التي يتوجب أن تكون فيها.

 سأقول لهم: إن العمال اللذين يشتغلون في الورش غير مصرح بهم في مؤسسة الضمان الاجتماعي، وأن أجورهم لا تصل إلى الحد الأدنى للأجر، وسأضيف كذلك، أن الساعات التي يشتغلونها في اليوم لا يمكن حصرها، وقد تمتد إلى وقت آذان المغرب…

    يأخذ وقتاً مستقطعاً، ينظر إلى السماء، يتنهد بعمق، ثم يرفع يده اليمنى ليضرب على صدره براحة كفِّها ضربة سمعت لها صوتاً، ثم يواصل الكلام:

  ــ أما أنا فسأرتمي في أحضانهم وأبكي بكاءً بدون انقطاع، سأفرغ كل ما في عيني من دموع، وأمامهم سأصرخ بأعلى صوتي:

  ــ إن الشركة التي أعمل بها لا تحترم أدنى شروط العمل، تجعلنا على أبواب المكاتب والإدارات وتعطينا تعليمات صارمة تجعلنا في مواجهة المواطنين، هم يقررون داخل مكاتبهم في الطوابق القريبة من السحاب، ويُنزلون إلينا آخر موظف في هرمهم ليوصل إلينا أوامرهم الخالية من كل إنسانية.

يكبلوننا من وراء سياج المداخل، وفي بعض الأوقات لنمنع الناس من ولوج البناية، أو لنرشدهم إلى مكتب لا نعلم العمليات التي تُجرى فيه، وقد طرحت أسئلة كثيرة حول قضية المرور من المكتب الموجود في الطابق السفلي قبل التوجه إلى أي مكتب في البناية. فأنا لا أعلم سبب إصرارهم على مرور كل المرتفقين من هذا المكتب المظلم، ما أعرفه أن الشخص الذي يوجد فيه سيئ الذكر بين الناس، ويبدو ذلك من التجهم الكبير الذي يبديه الأشخاص عندما يقفون على ضرورة المرور من هذا المكان.

      يصمت لوقت قصير، ثم يسترسل بصوت أقل نبرة من الأول:

  ـ سأركز كثيرا على هذه النقطة، وهو أمر مشترك تقريبا بين كل الإدارات، أو على الأقل التي سبق لي أن حَرستُ بابا من أبوابها، هي تتشابه في الأصل، وتختلف في الفروع، نفس البنية من البشر، نفس الخطاب، نفس الجو، نفس التعامل، قليلاً ما تجد شخصا يعمل مع هذه الثلة من البشر وهو يختلف عنهم في السلوك، وإن وُجد فغالبا ما يحاول الآخرون لمسَ سمعته بسوء، ولو بإطلاق لقب من الألقاب عليه، ومحاولة نشره بين الناس، لا لشيء إلا لأنه يختلف عنهم، وما يفعل شيئا إلا أنه يقوم بواجبه، يقوم بما تقتضي مهنته أن يقوم به، يؤدي واجباته عل الوجه الذي يجب أن تؤدّى به. هم يضايقونه بشتى الوسائل ليعود إلى الصواب، والصواب في عرفهم أن يمارس أفعالهم.

جثا على ركبتيه، وهو يمسك بكفيه جانبيْ رأسه، يُصدر أنيناً متواصلاً، يتراخى وينبطح أرضاً في استسلام تام، بعد نفاد مخزون مُقدراته الجسدية والنفسية.

   رأيت امرأة جاءت تجري إلى المكان، الراجح أنها زوجته، رأيتها تحمل كيساً ورقياً تخرج منه بعض الحبات، وهي تقول للمتحلقين حوله:

لقد نفذ له الدواء، ولم نجد ما به نشتريه، وأرجأنا الأمر إلى الغد ربما نجد من يمدنا بشيء من المال ويصبر علينا إلى حين ميسرة، وعندما أُخْبِرْتُ بالحادث هرعت إلى الصيدلية، وها أنا ذا أحمل إليه الدواء.

 سكتت قليلا ثم تنهدت بملـء حِملها الثقيل، وأردفت:

ــ أما الثمن فسأتولاه من مجهودي في تنظيف أرضيات وواجهات بعض مكاتبهم.    

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون