منّة ربيع
«لا أعرفُ السرَّ وراء صوتِ خريرِ الماء الذي يصلني، ولكنّي أشعر أنّي حَبَّةُ رملٍ تنزلق».
تحدثني نفسي، حيث أكونُ مستغرِقةً في النوم. أرى السماءَ مِن حيث أستلقي، لم تشرقْ شمسُها اليوم؛ ربّما تمطر، رائحةُ الهواءِ تعبق، وأوراقُ النخيلِ تصدرُ حفيفًا عند شباكي، أمامَ منزلِنا أكبرُ نخيلٍ في المنطقة، أحبُّ أن أتركَ الشباكَ مفتوحًا كي أطالعَ القمرَ في الليل، كما أن أختي الصغرى تحبُّ مطالعةَ النجوم، مثلما علّمَتها جدّتي التي تزعمُ أنّها عالمةُ فلك، ولكن على النطاقِ المحليِّ للمنطقة! لا تؤمنُ أمي بالسماء، ولا تنظرُ إليها إلا في حالِ معرفةِ الطقس، لكنّها تؤمنُ بما تتعثّرُ بهِ مِن أشياءَ لامعة، لذلك تبدو حدقةُ عينيها ضيقة، من كثرةِ ما تمعنُ النظرَ تحت قدميها، أما نحن، لدينا عيونٌ واسعة، زرقاءُ أو رماديّة، تتغيّرُ حسبَ المزاجِ السائدِ في السماء؛ ذلك ما فسّرتهُ الجدّة. وعادةً ما تضجرُ أمي لأنّي أخالفُ نظامَ الطبيعة ولا أنام الليل. فتوقفتْ عن مناداتي عندما تصفُّ أطباقَ الإفطار، فتحاولَ جدّتي التّدخّلَ، وتخبرُها أمي «أنّني شيءٌ فائضٌ عن الحاجة».
لا أعرفُ كم ليلةٍ مضت وأنا على تلك الحال، ولكن يلازمني هاجسٌ أنّني أقفُ على خيطٍ رفيعٍ بين الوجودِ والعدم، لستُ هنا، ولستُ أيضًا في مكانٍ آخر، يدورُ عقربُ الساعةِ مشيرًا إليَّ، دورةً تلو الأخرى، ولا يُسْفِر عن شيء. أحيانًا تشتعل بداخلي الرغبة، أودُّ أن أتقدَ، أو أصيرَ نجمةً، لا يحيدُ عن جمالِها أحد، لكنّني أحترق.
لا تكفُّ أختي عن مطالعةِ النجوم، وتصفها بأنّها تبدو صغيرةً ولامعةً كحباتِ الرملِ المتناثرةِ إذا سطعتْ عليها الشمس. وكان خيالُها الطفوليُّ الواسعُ، يأخذها إلى أن تؤمنَ أنّ عائلتَنا الصغيرةَ -ذاتَ يومٍ- ستحصلُ على نجمةٍ ستسقطُ مِن السماءِ إثرَ هطلانِ المطر، كما قرأتْ في إحدى القصص الخياليّة.
تأتي جدّتي بجلالِ طلعتِها، وتمسّدُ رأسي بينَ كفّيها، ثمّ تبدأُ الحديثَ عن الحبّ، وعن القلوبِ التي قد تتبّعتْ نجمَها، وعن تلك التي هي -أبدًا- دائمة الخروجِ عن المسار، وتسألني دون أن تنتظرَ جوابًا: «لماذا لا تفكين عن قلبِكِ هذا الحصار؟» ثمُ تردفُ قائلةً: «سأقتفي أثرَ نجمِك». تمطرُ الآن… ويصلني صوتُ أمي وهي ضجرةٌ كعادتِها وهي تَهِم بالخروج، فالوقتُ الذي يتحوَّلُ فيهِ سطحُ الأرضِ إلى لآلىءَ لامعةٍ قد حان، تَصُكُ البابَ خلفها، كأنما تَصُكُ روحي.
إنّني أستسلمُ، أغمضُ عيني في سكونٍ، ويخورُ جسدي كأنّي أنزلق، تتدلّي يدي، ولم يأتِ أحدٌ كي يغلقَ الشباك؛ فبردتُ. تجيءُ جدّتي وتقولُ «سقطَ نجمُكِ أمام منزلِنا، لابدَّ أنّكِ مُتِ ».
توقّفَ المطر، وعادتْ أمي بعينين قد اتسعت حدقتهما، وقالت بنبرةٍ تلمؤها النشوةُ « لقد تعثّرتُ في نجمة».. ليتها تعلمُ أنَّها روحي!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة مصريّة .. حاصلة على جائزة إبداع الشباب