محمد ممدوح
قبل انتهاء الشاب من كوبهِ صعد بخار الشاي لأعلي عند رؤيته السُّحُب التي ظهرتْ في السماء كجزرٍ منعزلة؛ حينها فكّر البُخار في قاع الكوب الذي تركه خلفه، فقديماً كان يصطدم بسقف الحُجرة ليستقرّ فوق مقعد أو إطار نافذة، عندما تضاءلتْ الأرضُ خلفه إلي خطوطٍ نحيلةٍ امتنعتْ السُّحُب أن يتسلّل إليها، وفضّل البُخار الاختفاء في بحر السماء الأزرق بعض الوقت.
خرج البُخار من البحرِ وحيداً، ليجد حجراً مثقوباً كان علي الأرض بجوار نهر، لكن سحابة التقطته خطأ أثناء تحضيرها حمولة مطر.
تراجع الحجرُ مذعوراً عندما اشتمّ رائحة شاي في الأجواء.
تلوّي البُخار غضباً ثم رسم ابتسامة مفاجئة، فسمح له الحجرُ بالتسلل من ثقوبه واجتياز ممراته المظلمة والإقامة في نقطة هادئة بالداخل، كان البُخار يغادرها إلي الخارج ليلعب مع الحجر نفسه، ويُغطيه علي شاكلة طحالب أو زبد موج، يُزيلها البخار بعد ذلك عن الحجر بقبضة ماء من سحابة؛ كي يتنفس.
انتهي الشابُ من شايه وتنهّد في ارتياح. تمشّي فوق السطح وراقب خطّاً أبيض تركته طائرة في السماء، أحياناً يُحدّق في ظلالِ نتوءاتٍ صغيرة لسور السطح، أو يستند عليه بمرفقيه ليشد أحبال الغسيل مترنّماً بأغنية، قد يضحك بلا سبب ويلتقط حصاة يقذف بها غراباً فوق سلك كهرباء.
تمتد الأسطح المجاورة أمام الشاب كشوارع بلا نهاية، يسير فيها بأحلامه دون هدف ليلتقط ملابس داخلية ويتشممها بقوة، يهبط داخل أي بيت ليضاجع أيّة امرأة.
أغمض عينيه مستسلماً للصمت، لهواء ضرب وجهه بخفة، تأمّل كوبه الفارغ الذي تداخلتْ علي جداره واجهات البيوت بالسُّحُب بالأطباق اللاقطة. يتلاشي المشهد، ليغسل الشابُ الكوب ويستبدله بآخر ميّزه بلاصق علي حافته، يقضي بقية النهار بين مشاهدة التلفزيون والجلوس بالقرب من نافذته التي يلعب ولدٌ أسفلها كل يوم.
الولدُ ضعيف البنية، لذا لم يفضّل أقرانه اللعب معه.
تأبّط كرته منكّس الرأس وتبادلها في طريقه مع كلاب، قطط، طُرد من أمام بيوت ٍ أخري فانتهي به الطريق إلي أرض فضاء انتصبتْ فيها أراجيح، فانتابته بهجةٌ غامضة عندما نقد الرجلَ جنيهين ووقف بكُرته في صندوق الأرجوحة الذي لامس مرّتين طرف سحابةٍ، إلي أن دفعه الرجل بقوّة فانفصل عن الأرجوحة واستقرّ في السماء.
عندما قفز الولد من الصندوق لاحظ قطرات عرق علي جداره المعدنيّ، فمسحها بقميصه القديم، لكن القطرات عادتْ بغزارة كلّما اقتربَ الصندوقُ من الحجر.
الحجر، أطلق من ثقوبه ما تبقي من بخار الشاي فتشكّل طيوراً وغزلاناً ابتهاجاً بظهور الصندوق، الذي قفز منه الولد مستعرضاً مهاراته بلعب الكُرة.
حكي “بخار الشاي” للولد أنّ صوت الشاب كان يخيفه وهو لايزال علي سطح الكوب، ليهرب مذعوراً فيرتطم بسقف أو حافة سكّين.
اقتربوا من نهرٍ صغير شقّ منتصف سحابة.
استقرّ الحجرُ علي حافة النهر.
وتحرّك الصندوق لمنتصف النهر والولدُ بداخله ينام مطمئناً ومحتضناً كُرته.
شَعُرَ بخار الشاي بالملل فانضم إلي “طبقة ضباب” هبطتْ في الليل، واعترضتْ سيّارة بداخلها الشاب أثناء عودته من البحث عن عمل، فأبطأ السائق سرعته متحسّساً معالم الطريق.
هبط الشاب من السيّارة فانقسمتْ “طبقة الضباب”، أكملتْ إحداها الطريق، وتخطّتْ الأخري قضبان السكك الحديدية ليخرج الشاب من طرفها الآخر دون ذراعه اليمني.
صعدتْ “طبقة الضباب” بذراع الشاب إلي السماء.
تراجع الحجرُ مذعوراً عندما سقطتْ الذراع بجواره.
التقط الولدُ الذراع، الذي لمح في إصبعي الإبهام والسبابة أثر ملعقة شاي، وجدّف بها مبتهجاً.
هبطوا إلي الأرض مع أوّل “طبقة ضباب”، فوضع الولدُ الحجرَ في الصندوق وجرّه خلفه بحبل مجدول إلي البيت.
ورفض الحجرُ العودة إلي حافة النهر في السماء، فقسمه الولد نصفين كعارضة وضعها أمام بيت الشاب للعب الكُرة، الذي وضع ذراعه في الصندوق الممتلئ ماءً ليري الناس كيف تتحرّك الأصابع مقابل المال.
في تلك اللحظة، وقف بخار الشاي فوق الكوب يتطلّع إلي سحابة عابرة.