ساق حسن عبد الموجود الوحيدة

"متاهة مريم" رواية الإحالات الأسطورية الخبيئة تستدرك لعبة الزمن
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فاطمة ناعوت

اللاكتمال ، منطقة البين بين .

تلك هي المنطقة التي تستهويني الكتابة عنها ، وهي الملمح الجمالي الذي يستوقفني في أيّ عملٍ إبداعي اٌقرأه. مجموعة قصصية جديدة للقاص الصحافي حسن عبد الموجود ، عنوانها “ساق وحيدة” وصادرة عن دار ميريت للنشر والتوزيع. العنوان، العتبة الأولى بتعبير النقاد، واشٍ بالأرق والهمِّ الذي يستعمر الكاتب

الأرق الذي هو منطقة ” الوشك” لا التمام ، لا هي حالة الصحو التام ولا النوم المغرق أو بتعبير حسن عبد الموجود (الباب نصف المغلق)، الخيط بين الواضحيْن والذي تختلط فيها الرؤى بالرؤية، الأشباح بالموجودات، فإذا غادر الرائي تلك المساحة الضيقّة ، باغتته الحقيقة الأكثر مرارةً ، إما السقوط في النوم ليدخل غرفة الحُلم التي لا يقين فيها ولا وضوح ، أو يخرج إلى عالم الصحو الغارق في التشكيك حتى فيما نرى أو نلمس.

إنه الهمُّ الذي يحياه العلماء والمفكرين والشعراء ، لا يقين هناك ، النجوم التي تلمع في السماء ونقسمُ أنّا نراها لا وجود حقيقي لها إذ أن ما نراه محض صورة قديمة لها، تصلنا بعد عشرات السنوات الضوئية ، فالنجم قد غادر موقعه منذ أمدٍ ، بل ربما انفجر أو فني منذ سنوات مما نعدُ وهذا ما جعل القرآن لا يقسم بمواقع النجوم . حتى ما نلمسه بأصابعنا الآن محض وهم ، فالكوب الذي لمسته منذ دقيقة وتفكر الآن في لمسه مجددا لن يكون هو الكوب ذاته حيث أن موقعه الجغرافي قد اختلف نتيجة دوران الأرض بين اللمستين ،فنحن لا نلمس الكوب ذاته مرتين بتعبير المسيح ، وهذا ما يجعل حسن عبد الموجود يقول في قصة “كابوس” :

هل أستقر لأشربَ من الزجاجةِ التي تستقرُّ على الأرض بجوار السرير وألمسها بيدي الآن، كسل ، أستطيعُ أن أغيّرَ كلَّ شيءٍ إذا نهضتُ وفتحتُ عينيّ وحدّقتُ في فراغِ الحجرة،إذن ليس كسلا إنما رغبةً في الاستمرار .”

أنه ينشد اليقين الغائب الذي لم يتمكن من القبض عليه لحظةً ، يلتمسه بالتأكيد على تفعيل الحواس التي درجنا في تصديقها كما علمتنا كتب العلوم صغارا ، اللمس ، الرؤية ، التذوق ،… يريد أن يثبت أنه يرى بالفعل الزجاجة التي (تستقر على الأرض) بل ويحدد إحداثيات وجودها باستعمال ظرف المكان و التنسيب إلى موجودٍ آخر علّه أكثر موجودية (جوار السرير) ،ثم يفّعل حاسة اللمس التي هي أداة موازية للرؤية وفي قوتها عند الأعمى (ألمسها بيدي) ثم يحدد البعد الرابع الأينشتيني ، الزمن ، الذي يقطع الشك باليقين (الآن).

إذن نسج القاص كلَّ مفردات الشرّك الذي ينصبه لعقله الواعي بانعدام اليقين ، علّه يبطل حجج هذا الوعي ويخدعه برصد مجموعةٍ من الأدلة الدامغة – ظاهريًّا- مستغلا كافّة الأسانيد الحواسيّة والعلمية والجغرافية والنسبية ( نسبة إلى نسبية أينشتين)، لكنه يفشل في لُعبته ، إذ يظلُّ شبح عدم الاكتمال وعدم الوضوح يطارده ، إذ بإمكاننا أن نخدع الآخرين باعتمار أقنعةٍ تخفي ملامحنا ، لكننا لا نهرب من عقولنا التي تفعّل الإدراك.

العنوان الدال للمجموعة القصصية تم اختياره بعناية بالرغم من أنه فتح مخروط رؤية النصوص على مصراعيها من الوهلة الأولى وكنت أميل لو اختار حسن عنوانا يوحي باليقين ليوقع القارئ في الفخ الذي نصبه له على نحوٍ كامل ، نعم ، الفخ الذي جعل الكاتب يكتب عن (اللايقين) بكل مفردات اليقين والتأكيد ، وهذا ما أعجبني للغاية ، حيث يمكن للمدرسة النقدية الإحصائية أن تحصي عدد المفردات ذات الدلالة التأكيدية في النصوص ولن أفاجأ بحجمها ، لأن الكاتب يتعمد أن يوحى للقارئ بهذا الالتباس الفنيّ الماكر .

المشي على ساقٍ واحدة ، حالة النقص لا العدم ، فلا هو السكون التام الذي يسمح برصد الهدف وتأمله ، ولا الركض نحو الغاية . الحياد الذي يفور بالتمرّد منتظرًا انفتاح فوهة البركان لتخرج الحمم ، لكن هذا الانفتاح لا يجيء على الإطلاق ، ويحيا الكاتب حالة الانتظار المشوب بالتوتر والموحي بالهدوء والسكينة تماما مثل ( الحذاء الوحيد الذي لا تتجه مقدمته لا إلى ناحية اليمين ولا إلى ناحية اليسار ) في قصتّه الأولى ” ساق وحيدة” حين يفاجأ المرء أن إحدى ساقيه قد اختفت إلى غير رجعة.

والمفارقة أنه لا يشعر بالغضب أو الألم فقط كان كل ما يشغله أن يتأكد أن هذا الإجراء التعسفيّ الذي وقع عليه من قِبَل مجهولٍ هو قّدّرٌ عام ، انطلاقا من فكرة المساواة في الظلم ، وحين يوقن أن زوجته وابنته وبائعة اللبن ومحصّل المترو كلهم يحملون ساقًا وحيدةً تستقر حاله ويهدأ ، والجميل هنا أن حسن عبد الموجود لم يشر مطلقا على غياب ساقٍ ، بل تكلّم عن وجود (ساق وحيدة) وفي هذا دلالات كثيرة منها أنه غير مهتم بالانتقاص لكنه يرصد عدم الاكتمال ، كأن نقول هذا كوبٌ غير ملآن بدلا من أن نقول هذا كوبٌ ناقص ، ومنها التلويح بدلالة (الوحدة) أو التوحد الذي يحياه الإنسان كلما زاد البشر وتناسلوا ، فنحن ننخرط في وحدتنا كلما التفَّ حولنا البشر، وكلما بوغتنا بتحديقات العيون حولنا كلما دخلت رءوس أرواحنا في شرنقة الذات .

في قصتّي “حُلم ناقص” و ” وسن” تأكيد على المعنى ذاته ، فالبطل يحيا حياةً استعاريةً داخل الحلم بعدما فشل في تحقيق آماله في الواقع ، يمارس كل الطقوس السادو-مازوكية نومًا ، يقتل الغريم مفتول العضلات ويستمتع بمذلته حين يساعده المقتول ذاته في دفن جثته ، بل يدعّى أنه غاضب حين يقول له (سرّك في بير يا بيه) فينهره لأن الوقت غير مناسب لاستعمال الألقاب بينما يكون متلذذا بساديةِ ممارسة الطبقيّة حتى مع جثة انتهى توًّا من تصفيتها ويشرع في دفنها.

ويمارس ساديته أيضا مع العملاق الذي دأب على السخرية من نحافته وضعفه ،ومع المرأة البدينة التي تتحرش به و بانهزامه ، وأيضا مع الفتاة الرقيقة التي يلقيها في المتاهة مستمتعا بضعفها وقوتّه. ثم يمارس مازوكيته حين تنجح الكلاب في إنقاذ المرأة منه قبل تمام القصاص وكذا حين تخونه زوجته وتنظّر لأسباب خيانتها.حال الانهزام الوجوديّ الذي نحياها حيال عالمٍ شديد القسوة والجمود ، بوسعنا معالجتها ذهنيًا لخلق نوع من المعادلة الموضوعية تتيح لنا البقاء والاستمرار ، داخل مخيالنا الخصب ، عالم المبدع وعدّته وسلاحه الأوحد .

نفتح الخيال وأوراقنا ونشرب إكسير مستر هايد فنستحيل مردةً موفوري القوة والقسوة ، نقيم مقاصل القصاص لنصفي معذبينا الذين يقمعون واقعنا الفعليّ ، ثم نصحو بعدما نبرأ من أوجاع أرواحنا ، بل ربما صافحنا من قتلناهم بالأمس في الحلم ، لا رياءً منا ،لكن لأننا لم نعد نكرههم بالفعل ،فقد عاقبناهم واقتصصنا من أخطائهم فعادوا أنقياءً طيبين جميلي الملامح.هزائمنا تجاه العالم وتجاه أنفسنا ، بوسعنا أن نداويها بقليل من الكذب البريء ومصالحة النفس ، فحين نصوّب رصاصةً على عدوٍ وتطيش لتصيب كلبٍ بائس لا حول له ولا قوّة ، لن نعترف بالفشل ، بل سنزعم فورًا أننا إنما قصدنا الكلب ، فقط لنمرّر رسالةً إلى خصمنا الغاشم الذي هو الهدف الأساس :”عليّ أن أعترفَ أنني وجهتُ يدي بالفعل إلى ذلك الكلب الهائل …وهكذا يحدث أن أتخلص منه وفي الوقت نفسه أوجه تحذيرًا شديدًا لجاري اللص .”من قصة “شجرة الويسكي” .

تلك المجموعة القصصية اللافتة للقاص حسن عبد الموجود والتي تضمّ خمس عشرة قصة ، تخفي أكثر مما تشي ، حيث يستخدم القاص تقنية التكثيف الشديد في الحكي والاقتصاد في السرد فتنفتح الدلالات ويغتني النص ،عبر لغةٍ تجمع بين البساطةِ والقوة . على إنني آخذ على الكاتب وضوح العناوين التي تكشف عن المتن و قد كان حريًّا به أن يستخدم تقنيته ذاتها التي انتهجها داخل النصوص في عدم الإفصاح و ابتسار المعنى فيجبر القارئ على خوض التجربة بوصفه المشارك الفعليّ في خلق القطعة . غير أن هذا الملمح السلبيّ الوحيد – من وجهة نظري – لا يشكك مطلقا في ثراء تلك المجموعة القصصية البديعة التي لم أتناول إلا ملمحا واحدًا فيها في حين أنها تزخر بالكثير.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم